IMLebanon

عن طائف اقتصادي اجتماعي مؤجّل ومغيّب في النقاش الحالي

لافت التنوّع في أسلوب تناول قرار المجلس الدستوري الأخير الذي أبطل قانون الضرائب التي سوّغ لها في المجلس النيابيّ من صوّت عليها بأنّها بقصد تمويل سلسلة الرتب والرواتب. فهناك من ركّز على أنّ هذا القرار تطابق مع نظرة المصارف إلى الأمور، والأهمّ، أنّه شدّد على أنّ هناك «صلة نسب» بين نظرة المصارف إلى الأمور وبين النص الدستوريّ اللبنانيّ. وهناك من ركّز في المقابل على أنّ هذا القرار يفيد بالنتيجة كلّ من رفض هذه السلّة الضريبية، من فوق أو من تحت، من على يمينها أو على يسارها، خاصة وأنّه يربط الضرائب الجديدة بتمرير الموازنة العامة ككل، ويفكّ الرابطة بينها وبين سلسلة الرتب والرواتب.

بين هذين الحدّين، وما يتبعهما من جدل حول تجميد اعتماد السلسلة إلى حين إقرار الموازنة، يُعيدنا قرار المجلس الدستوريّ لأمرين نغفل عنهما مع الوقت: وهو أنّ المؤسستين الرئيسيتين المستحدثتين في إتفاق الطائف لإعادة بناء الدولة بعد الحرب، والتي يستفاد منهما استصلاح للعقد الإجتماعي الذي يفترض أن ترتكز إليه هذه الدولة، لم يقلعا كما يجب منذ البدء. أحدهما، المجلس الاقتصادي الإجتماعي وُلد رمزياً، وازدادت هامشيته مع الوقت، ولا يعره أحد بالاً اليوم في كل النقاشات حول حقوق ومطالب الفئات المختلفة، وحول الضرائب والرواتب والضمان وأكلاف الطبابة والتعليم ومستويات العيش وما شاكل. والثاني، وهو المجلس الدستوري، الذي قال به الطائف مجلساً لمراقبة دستورية القوانين وتفسير الدستور في آن، ثم نحيت عنه الصلاحية الأخيرة عندما أدمجت اصلاحات الطائف بالمتن النصّي للدستور، كان واعداً في البدء، ثم أخلف في وعده غير مرة للبنانيين، سواء عندما ابتدعت حكاية استبعاد مرشحين متقاربي النتيجة لصالح ثالث نال العدد الأقل من الأصوات، في فرعية المتن 2002، أو عندما مرّر المجلس التمديد للمجلس النيابي الحالي. ورغم أنّ المطالبة بـ «إحياء» المجلسين تتكرر بشكل نمطيّ في البرامج والشعارات الإصلاحية، إلا أنّ كثرة الشعارات ارتبطت بدورها بقلة النظر في الأسباب الهيكلية منها والظرفية، الحائلة دون قيام هذين المجلسين، بالشكل الذي عقدت عليه الآمال، في البدء، أو بأي شكل يجعل لهما وظيفة ثابتة في حماية الحياة السياسية والإقتصادية ـ الإجتماعية في لبنان من الإعتباطية والعبث.

بين هذين الحدّين أيضاً، وفي ظلّ هذه الهشاشة التأسيسية للمجلسين الاقتصادي الاجتماعي والدستوري، المتزايدة سنة بعد سنة، منذ التسعينيات الى اليوم، بل المستفحلة في زمن ما بعد انكفاء الوصاية السورية أكثر منها في زمن الوصاية، يلاحظ غياب أصلين ميثاقيين ـ دستوريين، كونهما يردان في مقدمة الدستور اللبناني المستحدثة بموجب الطائف.

الأصل الأول هو الفقرة واو من مقدمة الدستور. تعرّف نظامنا الإقتصادي بأنه «حرّ يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة». وهذا بعيد عن الواقع. صحيح أنّ لبنان لم يعرف نظاماً اشتراكياً على الطريقة العربية، وفترة تأميمات لمصانعه ومصارفه، لكن ذلك لم يجعل منه، على الصعيد الاقتصادي، سوقاً حرّة تنافسية. بل تطوّرت فيه اقتصادياً ومالياً، تجربة محكومة بمنطق «الوكالات الحصرية»، والإحتكارات غير التنافسية، والتلزيمات المتبادلة، في ظل بروبوغاندا لا تنتهي عن «شطارة اللبناني»، إنّما بعد أن نحيت من تحتها الأرضية التزاحمية، التنافسية، التحفيزية، الإبداعية، لهذه الشطارة. هناك فارق أساسي بين «الاقتصاد المركنتيلي» وبين «الاقتصاد الليبرالي» يتأكّد كل يوم في لبنان. بالتوازي، ثمّة قطاع عام متضخّم للغاية، قياساً على بلد لا تضطلع فيه الدولة بأدوار مركزية للعدد الأكبر من السكان لتغطية نفقات التعليم والتطبيب، بل لا تزال عاجزة فيه الدولة عن تأمين التيار الكهربائي بالشكل الكامل، بعد سبعة وعشرين عاماً على نهاية الحرب الأهلية. قطاع عام متضخّم، بمقاييس «دولة شيوعية»، لدولة قليلة الخدمات «بمقاييس دولة ليبرالية متطرفة»، إنّما في ظلّ «سوق اقتصادية ومالية» غير ليبرالية بالمرّة، قائمة على الوكالات الحصرية، والتلزيمات المتبادلة، وتوزيع وإعادة توزيع الحصص، بالتشنّج أو بالتي هي أحسن. رأسمالية من نوع خاص، على الطريقة اللبنانية، تعبّر عن نفسها بالشكل المقلوب. في البلدان الأخرى، أعداء الرأسمالية هم الذين يتوعدونها بالسقوط، وفي بلدنا الرأسمالية على هذه الطريقة الفريدة، هي التي تقلق اللبنانيين كل يوم، بإحتمالية سقوطها، ما لم يضح الأنام لها بالغالي والرخيص في سبيل إنعاشها وتجميلها.

الأصل الدستوري الميثاقي الثاني التائه هو الفقرة حاء من الدستور. «العمل على تحقيق عدالة اجتماعية شاملة من خلال الإصلاح المالي والاقتصادي والإجتماعي». ليس طفيفاً أن يكون الدستور اللبناني قد أقرّ بهدفية «العدالة الإجتماعية الشاملة»، في حين يغلب التصرف كما لو أنّها فقرة غير موجودة دستورياً، أو «اكزوتيكية» ليس أكثر، وفي كل الأحوال لا مكان لها عند بحث المسائل الإقتصادية الإجتماعية والمالية، وعند اقرار الموازنة العامة والتطرّق إلى وضع المالية العامة للدولة. صحيح أنّ مقولة «عدالة اجتماعية شاملة» ليست كفيلة بأن تفسّر نفسها بنفسها، والأصحّ أكثر أنّه ليست هناك بين المواد الدستورية نفسها مفاتيح تطبيقية لهذه المقولة، الأمر الذي يعزلها في «المقدمة» كتعويذة داخلها. لكن هذا لا يلغي أصالة هذه الفقرة في الدستور، بل أن إعادة الإعتبار للنظام الدستوري بعامة في لبنان مرتبط، وبشكل يزداد إلحاحاً، بإكساب هذه المقولة مضامين نفعية عملية حقيقية، وبالربط مع الفقرة واو، حول المبادرة الفردية.

في مقدمة الدستور مدخلان إذاً، أحدهما ينص على «المبادرة الفردية» والثاني على «العدالة الإجتماعية الشاملة». المدخلان موجودان في مقدمة الدستور وغير موجودين في الواقع اللبناني بعد، إلا إذا اعتبرنا القاعدة الإجتماعية العريضة المستفيدة بشكل تدرجي وغير مباشر من أنماط المحاصصة القائمة هي شكل من أشكال العدالة الإجتماعية على الطريقة اللبنانية، على نحو ما هو رائج تصنيف النظام الاقتصادي اللبناني على أنّه «ليبرالي» في حين أنّه تلزمه مراجعة عميقة وشاملة لكي يطلق عملية انتقاله نحو الليبرالية. ليبرالية من دون مبادرات فردية تنافسية وتزاحمية، ومستبدلة بوكالات حصرية وحصص موزعة، ومرهقة بقطاع عام ضخم، وممانع أمام الخصخصة، وغير مرتبط بنموذج «دولة اجتماعية» من الأساس. هذه ليست ليبرالية.

ثمّة ما هو مؤجل في هذا البلد، وتظهر راهنيته اليوم. الطائف الإقتصادي الإجتماعي الذي لم ينعقد بعد. الذي أسّس له مع ذلك الطائف الأوّل، بمقولتين دستوريتين ميثاقيتين قلّ من يكترث بهما بين المتحدثين عن الميثاق والميثاقية: المبادرة الفردية، والعدالة الإجتماعية.