لم يعرف لبنان مصلحته في يوم من الأيام. عندما عرفها، وعرف كيف يحافظ على نفسه وإزدهاره، ندم على ذلك. كان ذلك في حرب حزيران – يونيو 1967. امتنع لبنان، وقتذاك، عن خوض تلك الحرب، فحافظ على أرضه وحقوقه. لكنه ما لبث أن أصرّ لاحقا على أن يكون جزءا من الصراع الإقليمي في وقت انسحب آخرون منه. راحت مصر بعد حرب تشربن (أكتوبر) 1973 تبحث عن استعادة أراضيها المحتلة، فيما النظام في سوريا يبحث عن كيفية الإستفادة إلى أبعد حدود من حال اللاحرب واللاسلم التي تخدم بقاء النظام. أما الأردن الذي خسر في 1967 القدس الشرقيّة والضفة الغربيّة، والذي لم يشارك في حرب 1973، فإنه تُرك وحيدا. رفضت إسرائيل الدخول في أي مفاوضات مع المملكة الأردنيّة الهاشمية على طريقة المفاوضات مع مصر أو سوريا بهدف الوصول إلى إتفاقات محدودة وجزئيّة من نوع سيناء – 1 وسيناء -2 – أو إتفاق فك الإشتباك في الجولان الذي اخلت بموجبه إسرائيل القنيطرة في مقابل شروط معيّنة.
باستثناء الحدث الفريد في العام 1967، لم يظهر ما يدعو لبنان إلى معرفة هذه المصلحة الذاتيّة. الأكيد أن ليس ما يدعوه في السنة 2023 إلى ذلك بعدما صار تحت البلد حكم «الجمهوريّة الإسلاميّة». ليس لبنان، إستنادا إلى ما يحدث في جنوبه سوى ورقة إيرانيّة لا أكثر في لعبة ممنوع عليه المشاركة فيها من قريب أو بعيد.
من قضى على لبنان؟ الجواب أن لبنان، الذي يحتفل غدا الأربعاء بالذكرى الـ 80 للإستقلال قضى على نفسه. قضى عليه مسلموه قبل مسيحييه وقضى عليه مسيحييوه قبل مسلميه. لم يدرك اللبنانيون في أي نعمة كانوا يعيشون… في مرحلة ما قبل 1975. لم يعرفوا معنى أن يعيد رفيق الحريري لهم بيروت ابتداء من العام 1992. لم يتمكن اللبنانيون، بكلّ أسف فهم معنى الربط بين السياسة والإقتصاد. لذلك لم يستوعب ميشال عون وصهره جبران باسيل في أي وقت أهمّية إنهيار النظام المصرفي اللبناني في عهدهما الذي استمر بين 2016 و 2022، والذي كان في واقع الحال «عهد حزب الله».
ما العمل مع مسيحيين يفتقدون الحدّ الأدنى من الحس الوطني من جهة وفهم ما يدور على أرض لبنان وفي المنطقة من جهة أخرى. هؤلاء المسيحيون لم يدركوا ولن يدركوا حتّى يومنا هذا خطورة توفير غطاء لحزب مذهبي مسلّح ليس سوى لواء في «الحرس الثوري» الإيراني. كيف يمكن للبناني، بفض الطرف عن طائفته، توفير غطاء لسلاح حزب يقول علنا أن حساباته إيرانيّة، من ألفها إلى يائها، ليس إلّا.
لا حاجة لعودة إلى العام 1969 تاريخ توقيع إتفاق القاهرة المشؤوم الذي كان يعني بين ما يعنيه التخلي عن جزء من الأرض اللبنانية للمسلحين الفلسطينيين. ولا حاجة إلى تكرار أن اللبنانيين، في معظمهم، غير قابلين للإستفادة من التجارب التي مرّوا بها عبر تاريخهم الحديث. يفتقد البلد، للأسف الشديد، في أيّامنا هذه لزعامات وطنيّة تمتلك الرؤية العربيّة والدوليّة في آن. لا زعيم في لبنان غير سلاح «حزب الله»، تماما كما كانت عليه الحال في مرحلة معيّنة عندما كانت الكلمة الأولى والأخيرة للسلاح الفلسطيني ثم للوجود السوري الطاغي.
عرفت إيران كيف تتسلل إلى النسيج الاجتماعي اللبناني عبر تغيير طبيعة المجتمع الشيعي فيه. ليس مبالغة القول أن «الجمهوريّة الإسلاميّة» استطاعت تهميش كلّ شيعي ذي حيثية يعرف ما يدور في البلد والمنطقة والعالم… ويعرف أنّ ليس لدى «الجمهوريّة الإسلاميّة» ما تقدّمه للإيرانيين أنفسهم، فكيف لها أن تفدّم شيئا للبنان بمجتمعه المتنوع والمنفتح… باستثناء عزله عن العالم ومحيطه العربي الواسع.
بعد ثمانين عاما من الإستقلال وبعد 123عاما من قيام لبنان الكبير، كلّ ما بقي عمله هو الصلاة للبنان. كيف لا ومصير البلد لم يعد في يد أبنائه ولا في يد سياسييه. المخيف أنّ ميشال عون وجبران باسيل غير مهتمين سوى بتصفية حساباتهما مع قائد الجيش العماد جوزيف عون في وقت يبدو مصير البلد على كفّ عفريت. لا مأساة أكبر من هذه المأساة عندما يحفر المسيحي اللبناني قبره بيديه من أجل ضمان تحقيق مصالح شخصية على حساب طائفته وحساب البلد كلّه.