ليس للبنانيين من نعم الاستقلال، في عيد استقلالهم الخامس والسبعين، الكثير. زحمة سير خانقة تسبب بها إقفال الطرق في العاصمة، نتيجة التمارين على العرض العسكري المخصص للاحتفالية، وزجليات ريفية ستملأ فضاء المناسبة، اختصرها وصف وزير الخارجية جبران باسيل لحزبه وبيئته بأنهم «صخرة الاستقلال» في هذا الزمن.
الأرجح أنك لو خيّرت اللبنانيين بين «الاستقلال» الذي يعيشونه الآن، ودوام الانتداب الفرنسي عليهم؛ أو أقله عودته، فلن يكون من باب الخيال الواسع أن يتوقع المرء تفضيلهم الانتداب على ما سواه. سيكون مثيراً لو أجرينا استفتاءً بهذا المعنى؛ فالمفارقة أن طلب اللبنانيين على التدخل الخارجي أعلى من العرض… الاستقلاليون، وهم السياسيون الذين سيتصدرون الشاشات زجلاً ودجلاً في هذه المناسبة، هم أنفسهم أصحاب الشكوى من الإهمال الخارجي لهم، أو تقلص الاهتمام بشؤونهم، لا سيما المادية قبل المعنوية… ولهذا التراث الاستدعائي للخارج، تقاليد أعمق وأرسخ في لبنان من تقاليد السيادة والاستقلال؛ فبحسب ملاحظة دقيقة لفيليب مانسل في كتابه الرائع «المشرق»، يشير الكاتب إلى أن ميزة التعدد الديني والمذهبي في مدينة بيروت وجبل لبنان، (يتحدث عما قبل الكيان اللبناني المولود عام 1920 الذي تحل ذكراه المئوية بعد سنتين)، جعلت أبناء الأديان والمذاهب المختلفة يحترفون لعبة إغواء القوى الخارجية للتدخل، واللعب على مصالحها المتناقضة لاستدراج حمايات في مواجهة خصوم محليين؛ حتى إن التجار استغلوا هذه التقنية نفسها للتغلب على منافسيهم في الداخل كما في المدن المتوسطية الأخرى كتجار الإسكندرية وسميرنا (إزمير التركية حالياً).
ولئن كان من الطبيعي أن تحف مثل هذه السلوكات سكان كيانات قيد الولادة الصعبة والمتقطعة، وسط تنافس الدول الكبرى قبل الحرب العالمية الأولى وخلالها وبعدها، إلا إنها في لبنان بقيت أقوى بكثير من الضوابط التي تمليها ولادة هوية وطنية لشعب ما وكيان سياسي اسمه وطن! فظل تراث المجموعات ونزاعاتها واستعدادها الدائم لاستدراج الخارج وإغوائه، هي الحاكمة على حساب هوية وطنية ضعيفة، وبالتالي دولة شديدة الهشاشة بمؤسساتها ونظامها السياسي المفترض أن يكون عابراً للهويات الفرعية.
لا يختلف لبنان الراهن عن لبنان القديم، أو عن أجزائه التي صارت كياناً واحداً لاحقاً. فلعبة الاستدراج للخارج؛ تاريخياً عبر القناصل والمفوضين السامين وراهناً عبر السفراء، لا تزال اللعبة الأكثر حضوراً في السياسة المحلية اللبنانية، وهي لطالما انتهت بمآسٍ لا حصر لها، لا سيما عندما يتحول التنافس الأممي إلى حروب دامية.
في التاريخ الحديث وصف عميد الصحافة اللبنانية غسان تويني ذلك بأنه «حروب الآخرين على أرض لبنان» وهو في الحقيقة وصف منقوص، لأنها أيضاً حروب اللبنانيين بالآخرين على أرض لبنان. فقد حاول الزعيم الدرزي كمال جنبلاط، وكان يومها زعيماً لليسار الإسلامي وليس للدروز فقط، أن يستعمل سلاح منظمة التحرير الفلسطينية في مواجهة المارونية السياسية التي بدورها لجأت إلى سوريا حافظ الأسد للموازنة مع ياسر عرفات. وما هي إلا سنوات قليلة حتى استدرجت المارونية السياسية بشخص بشير الجميل إسرائيل للخلاص من الاثنين معاً: منظمة التحرير وحافظ الأسد. ومع غروب اللحظة العَرَفاتية في لبنان وبداية انهيار المارونية السياسية استدرج الشيعة إيران واستدرجتهم إلى لعبة الاستثمار في لحظة الصعود الشيعي مستثمرين واقع الاحتلال الإسرائيلي، ليولد بعدها بقليل، اتفاق الطائف. استمر هذا الواقع بمسارات متعرجة وصعبة حتى اغتيال رفيق الحريري، الذي من مفارقات لحظة اغتياله أن يكون نداء الشارع اللبناني: «حرية… سيادة… استقلال»، فيما قرر وليد جنبلاط أن يرفع على قصره في المختارة علم فرنسا مستعيداً قولاً حاراً لوالده: «لم نعد وحدنا في العالم، المطلوب هو الصمود»!
يبدو لي أن ما يخيف اللبنانيين هو تركهم مستقلين مطالبين بإدارة شؤونهم وتوازناتهم من دون تدخل أو وصاية. الأكثر إثارة للخوف عندهم هو أن يترك جزء منهم في مقابل استمرار الوصاية والرعاية لخصومهم، وهو واقع أقرب إلى اللحظة الحالية. ثمة شعور لا تعوزه الأدلة بأنه في مقابل حضور الرعاية الإيرانية لـ«حزب الله» وأدواته وتابعيه في الطوائف اللبنانية الأخرى، يعاني خصومه من تقلص الاهتمام والرعاية العربيين. لم يعتد اللبنانيون هؤلاء أن يكون العراق أو اليمن أولوية سابقة عليهم، أو أن تكون الأحوال الداخلية للدول الراعية لهم، ضاغطة إلى الحد الذي يقصي ملفاتهم عن شاشة المتابعة.
الاستقلال، بهذا المعنى، ادعاء فارغ ومناسبة ما عادت تمُتّ لحقيقة واقع اللبنانيين بصلة جدية. لا يحتاج المرء إلى أن يذكر القارئ بانتهاكات إسرائيل اليومية، ولا بالوصايات الاقتصادية الإصلاحية للمجتمع الدولي ومؤسساته على لبنان وشروطه الصارمة قبل الإفراج عن المعونات والقروض. ولا حاجة للتذكير بالاحتلال الإيراني الفعلي الذي يمثله «حزب الله» في قلب الدولة وقرارها كما خارجها.
الصراحة توجب أن ننقل النقاش من أهازيج الاستقلال إلى التفكير الجدي في كيفية تحسين نسل الوصاية على البلد، وتلزيم جزء من القرار السيادي الاقتصادي والتنموي والسياسي لمعنيين جديين بسلامة لبنان وإعادة ترميم نموذجيته التعايشية التعددية، إن كان بقي لذلك سبيل.