IMLebanon

في ذكرى الاستقلال.. لماذا فشلت تجربتنا الديموقراطية؟

«لا إمكانية لنمو من دون قواعد تضمن تكافؤ الفرص، ولا ديموقراطية حقيقية من دون اقتصاد حر» «يريد الخالق الرزق اشتراكاً وإن يك خص أقواماً وحابى» (أحمد شوقي)

 

لم يتمكن الأكاديميون حتى الآن من تأكيد مَن يأتي أولاً في حاجات النمو في الأمم ما بين البنية الفوقية، أي السلطة والمؤسسات الحاكمة والقوانين، والبنية التحتية، أي أفراد الأمّة ومبادراتهم الفردية ومساحة الحرية والثقة التي يتمتعون بها. ولكن المؤكد هو أن التفاعل بين البنيتين الفوقية والتحتية هو الذي يؤدي إلى نجاح أو فشل النمو في معظم المجتمعات والأمم.

في كتاب «كيف تفشل الأمم» للأكاديميين «دارون أسموغلو» و «جيمس روبنسون»، دراسة معمقة تضمنت عوامل تاريخية واجتماعية واقتصادية وجغرافية في محاولة لاستنتاج أسباب نجاح أو فشل الأمم في النمو الإقتصادي. في المحصلة يعتقد الكاتبان أن التزاوج بين سلطات ترعى الحريات وتدعم المبادرات الفردية وتحمي الملكيات الخاصة والأدبية مع قناعة المواطن بأنه قادر على التأثير على حياته من خلال الجد والعمل والدراسة، والأهم قدرته على تغيير الحاكم، هي الصفات الملازمة للأمم الناجحة في عالمنا الحالي. والنمو هنا لا يعني فقط الغنى، فهناك الكثير من الأمم الغنية مالياً مع أنها لا تزال في أدنى مستويات النمو على مستويات عدّة.

وهذا يعني أن البلدان التي يعتمد غناها على الموارد الطبيعية دون غيرها من وسائل الإنتاج، ولا تمتلك بنية سياسية واجتماعية تفسح المجال لكل مواطنيها بالمشاركة في الإنتاج وصنع القرار لا يمكن وضعها أبداً في خانة الأمم الناجحة.

على عكس ما يظن أصدقاؤنا اليساريون، فإن سقوط القواعد الإقتصادية القديمة المبنية على الإقطاع، لم تأت على أيديهم، فمن أسقط الإقطاع كان البورجوازية التي حررت قواعد الإنتاج وأخرجتها من أيدي الملوك والملاكين، ووضعتها بسرعة هائلة في مجالات التنافس بين الناس، فواكبتها الثورة الصناعية التي أنتجت رأسماليتها، وأنهت بالتالي نمطية السلطات القائمة على تحالف الإقطاع مع المقدس، والتي استمرت على مدى قرون طويلة من التاريخ.

يعني ذلك أن التحول الكبير في طبيعة السلطات في الغرب، كان نتاجاً منطقياً لتغيير نمط قواعد الإقتصاد والإنتاج، وهو نتاج خروج سلطة لقمة العيش والرزق من يد الحاكم المطلق، أو الأقلية المحيطة به.

سؤال أكاديمي طرحته باحثة أجنبية لرسالتها في الدكتوراه في العلوم السياسية عن أسباب فشل التجربة الديموقراطية في لبنان.

سمعت الباحثة الشابة أفكاراً عدة من سياسيين من مختلف الإتجاهات في لبنان. تضمنت الأجوبة مسائل متناقضة حتى بين الفريق الواحد، فكانت التهمة توجه إلى قوانين الإنتخابات والطائفية والتسلّط والإقطاع السياسي والوجود الفلسطيني والهيمنة السورية والسلاح غير الشرعي وغياب الديموقراطية في المحيط العربي وطبيعة اللبناني الفردي والفساد… 

جوابي أنا كان أنه لا يمكن الحديث عن نجاح الديموقراطية من دون تغيير جدي في قواعد الإنتاج على أساس تحرير أرزاق الناس من سيطرة الأقلية وهي عندنا تتمثل بالإقطاع السياسي، واسترسلت في الحديث عن الثورة الفرنسية ذات الطابع البورجوازي، والتي أعطت مثلاً تأثر به كل العالم، ومعها وبعدها الثورة الصناعية وتفجر الأفكار الخلاقة للأفراد في الإختراع والإجتهاد.

ولكن الباحثة قالت إن لبنان هو من الدول ذات الإقتصاد الحر، وبالتالي فإن الحجة الإقتصادية تصبح ساقطة، كما أن الإنتخابات تحصل بشكل دوري، ويذهب الناس وينتخبون وراء العازل.

فقلت إن الإنتخابات ما هي إلا أحد أركان النظام الديموقراطي، أما صحة الإنتخابات فهي مسألة أخرى. صحيح أن المواطن يمكنه أن ينتخب من يريد عندما يقف وراء العازل في يوم الإنتخابات، لكن خياره مرهون بعدة عوامل ليس فيها من الديموقراطية شيء. الواقع هو أن الإقطاع السياسي الطائفي هو العنصر الأهم في إدارة الإنتخابات والتحكم بنتائجها لأنه يتحكم بمصدر رزق الناس. يضاف إلى ذلك عوامل الحرب الأهلية بين – والإحتلال السوري بين – وسلاح «حزب الله» من إلى ما شاء الله، والتأثيرات المذهبية والإقليمية… 

ولكن رغم ذلك كله فإن واقع الإقتصاد يبقى العامل الأهم، ومن الواضح أن لبنان، رغم الحرية الإقتصادية النظرية كلها، ما زال بعيداً عن تسهيل المبادرات الفردية، وما زالت الإلتزامات والمعاملات والقروض خاضعة للإستنسابية السياسية والمذهبية، وما زال الفساد الإداري مستشرياً ومحمياً اجتماعياً وسياسياً ومذهبياً.

الواقع هو أن أرزاق الناس تحولت من سلطة الإقطاع الزراعي في لبنان إلى سلطة الإقطاع السياسي الطائفي.

ومع أن حجم الدولة في الإقتصاد الوطني يقارب التسعة بالمئة، لكن نصف المواطنين تقريبا يعتاشون من الوظائف الرسمية، مع أن توجه معظم الإقتصادات الناجحة هو نحو تقليص حجم المعتاشين من القطاع العام وتوسيع قواعد القطاع الخاص، ولكن الوضع ربما كان مقبولاً لو أن المعايير التنافسية هي التي تحكم التوظيف في القطاع العام، أو لو كانت معايير التقويم والترقية والمكافأة تعتمد على الكفاءة والإنتاجية.

ولكن هنا أيضاً نرى أن العنصر الأهم في السيطرة على الوظائف الرسمية بمختلف مستوياتها هو شراكة الإقطاع السياسي والمذهبي.

في العيد الواحد والسبعين للإستقلال، لا بد من التأكيد أن معضلة شراكة الإقطاع السياسي والمذهبي هي التي تسببت بسلسلة الحروب التي عشناها وهي السبب الرئيس في تدهور الإقتصاد ولا يمكن الخروج من واقعنا إلا بتحرير السوق من سيطرة الإقطاع، بالتوازي مع إصلاحات واسعة في البنية الفوقية لتتناسب مع الإقتصاد الحر حتى نتمكن من إرساء ديموقراطية حقيقية وتحقيق النمو المرجو.

()عضو المكتب السياسي في «تيار المستقبل»