التريث اللبناني في التطبيع الرسمي الكامل مع سوريا، يرتد على لبنان أولاً. الملفات الحيوية للبنان كثيرة بدءاً من ملف النازحين وانتهاء بملف التصدير البري. هل يتخذ رئيس الجمهورية ميشال عون قراراً شجاعاً أم أن الأمر رهن الحكومة الجديدة وبيانها الوزاري؟
أن يعلن رئيس الجمهورية ميشال عون ضرورة التواصل الرسمي بين الدولتين اللبنانية والسورية، ويؤكد عبر «الأخبار» أن قنوات الحوار سارية ومنتظمة مع سوريا في ملفي النازحين والأمن وأنه كلف اللواء عباس إبراهيم إدارة هذا الحوار الرسمي، فهذا يشكل نقلة ولو أنها متأخرة وغير كافية في مسار إعادة تطبيع العلاقات اللبنانية – السورية. تظهير هذا الموقف وقبله تشديد وزير الخارجية جبران باسيل على عودة الحوار السياسي مع سوريا لا يمكن فصله عن معطيات الميدان السوري الآخذة بالتدحرج لمصلحة النظام السوري.
بعيد الانتخابات النيابية، توجه أحد المعنيين بملف العلاقات بين سوريا ولبنان بسؤال محدد إلى عون: «لماذا لا تكون الاتصالات بين البلدين معلنة»، فكان الجواب: «انتهى مفعول صدمة استعادة سعد الحريري من السعودية وأنا مقتنع بأن السعودية تريد تطويق العهد ولجم انطلاقته، لذلك، من الأفضل في هذه المرحلة، أن نسعى إلى تطوير العلاقة مع سوريا تدريجاً، لكن من دون إعلان».
وعلى رغم كلام عون وباسيل الانفتاحي، غير أن لبنان الرسمي لم يخطُ حتى الآن خطوة جريئة باتجاه سوريا. العلاقة محكومة بالخجل من بعض الحلفاء أو برهان أخصام سوريا، خصوصا الرئيس سعد الحريري على تطور الموقف السعودي والخليجي مستقبلاً «حتى يبنى على الشيء مقتضاه».
في المقابل، ووفق التوصيف السوري فإن العلاقة مع لبنان «باردة وكان يمكن مع وجود الجنرال ميشال عون على رأس السلطة أن تأخذ منحى أكثر دفئاً وحرارة»، لا سيما أن دولاً عربية وأوروبية عدة تعيد النظر بالعلاقة وتفتح خطوط تواصل مع دمشق، وها هو رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون يستعد لأن يكون له موفده الرئاسي إلى سوريا، بدءاً من نهاية آب المقبل.
بداية أزمة الثقة
ما إن بدأت الأزمة السورية، حتى اهتزت العلاقات التي تم ترميمها جزئياً في مرحلة «السين ــــ سين». توقفت الزيارات الرسمية بين المسؤولين في البلدين، ولم يكن خافياً أن بعض أهل السلطة شجع تدفق السلاح والمسلحين عبر الحدود اللبنانية، ولم يبال هذا «البعض» بالشكاوى السورية من استخدام لبنان منصة وممراً لاستهداف سوريا. لاحقاً، وبحجة الوضع الأمني في دمشق، ترك السفير ميشال خوري السفارة في العاصمة السورية، في خطوة فسرها السوريون على أنها «سحب مبطن للسفير اللبناني»، أسوة ببقية الدول العربية والغربية.
صحيح أن البلدين محكومان بمعاهدة أخوة وتعاون وتنسيق بينهما موقعة عام 1991 وبسلسلة اتفاقيات وبمجلس أعلى له أمانته العامة التي تتولى التنسيق بين البلدين، إلا أن مرحلة الأزمة في العلاقات، وتحديداً في العام 2005، ارتدت على عمل المجلس الأعلى بخفض موازنته وعدد موظفيه وتراجع مهامه.
بعيد انتخابه بأسابيع قليلة، جال العماد عون في عدد من عواصم الخليج بدءاً من الرياض، ثم زار المملكة مرة ثانية، في نيسان الماضي، في إطار مشاركته في القمة العربية. سلوك غير مألوف إذ جرت العادة أن تكون دمشق وجهة أي رئيس للجمهورية غداة انتخابه، فكيف مع عون الذي تحمست له سوريا وأعطته؟ من الواضح أن «الجنرال» يتجنب زيارة سوريا بعد انتخابه لاقتناعه بأن ارتدادات الزيارة قد تصيب علاقات لبنان العربية والدولية، لكن المبررات اللبنانية قد لا تقنع السوريين بالكامل.
آلية التواصل: لبنان يتمهل
قبل توزيره وبعده، تكررت زيارات وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية بيار رفول إلى دمشق ناقلاً رسائل من رئيس الجمهورية إلى نظيره السوري بشار الأسد، لكن ثمة قناة أساسية ورسمية يعتمدها الجانب اللبناني بشكل منتظم منذ سنوات عدة هي المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم الذي أوكلت إليه مهام أمنية عدة (تبادل الأسرى والراهبات ومجموعة أعزاز إلخ) فضلاً عن متابعته الحثيثة في الآونة الأخيرة لملف عودة النازحين السوريين إلى ديارهم.
نصري خوري يتحدث عن «رغبة الجانب السوري بالتواصل لكن الجانب اللبناني متمهل»
بدوره، يشكل السفير السوري في لبنان علي عبد الكريم علي قناة اتصال وتواصل مع شخصيات سياسية وديبلوماسية وروحية واقتصادية واجتماعية، على عكس سفير لبنان في سوريا سعد زخيا الذي يعد الحلقة الأضعف في التواصل بين البلدين. فقد اقتصر نشاط زخيا الوحيد على تسليم رسالة من وزير خارجية لبنان جبران باسيل إلى نظيره السوري وليد المعلم. ويواظب زخيا على التواجد في مكتبه في السفارة بدمشق يومياً، باستثناء عطلة نهاية الأسبوع التي يمضيها عادة مع عائلته في لبنان.
أما رئيس المجلس الأعلى اللبناني السوري نصري خوري، فيشكل قناة تنسيق بين الوزارات في البلدين، خصوصاً أن واقع العلاقات الحياتية والاقتصادية يفرض نفسه، فقد عقدت لقاءات عدة بين الجانبين على مستوى المدراء العامين، وفق ما يقول الأمين العام للمجلس الأعلى اللبناني السوري نصري خوري، مشيرا إلى أننا «جهدنا لعدم حصول انقطاع في العلاقة بين البلدين على رغم كل التوتر الذي ساد بينهما ولم نتوقف عن متابعة تنفيذ ما اتفق عليه سابقاً وأحياناً نقوم بمهمات غير مطلوبة منا وغير معلنة»، وعلى رغم كل التوتر وتجميد عمل المجلس الأعلى اللبناني السوري منذ عام 2005، يتحدث خوري عن «رغبة الجانب السوري بالتواصل لكن الجانب اللبناني متمهل».
التريث اللبناني لا يتعارض وتنسيق الحد الأدنى بين الجانبين في ملف النازحين، وفي موضوع الكهرباء الذي يشهد مداً وجزراً وتقاذفاً للكرة بين وزارتي الطاقة والمالية في لبنان، فضلاً عن وجود ملفات أخرى قيد المعالجة.
حيوية معبر نصيب لبنانيا
إلا أنه وبذريعة تفهم سوريا للضغوطات، لم يبادر لبنان جدياً إلى ترميم العلاقات، وهو تغاضى عن وجود ملفات من مصلحة لبنان البت بها لمواجهة ازمته الاقتصادية والتي تستلزم تنسيقاً مباشراً بين المسؤولين في البلدين، كإعادة فتح معبر نصيب خصوصاً أن نصف صادرات لبنان البرية تمر عبر هذا المعبر. وتقول جهات اقتصادية إن صادرات لبنان كانت قبل الأزمة السورية أكثر من 4 مليارات، لكنها تراجعت بعد الأزمة إلى نحو مليارين و700 مليون دولار، ذلك أن لبنان كان يصدر عبر البر السوري بقيمة 300 مليون دولار صادرات زراعية ونحو 500 مليون دولار صادرات صناعية، وهذه الأخيرة خسرناها كلها بعد عام 2011.
مع التحولات التي تشهدها سوريا ومنها الإمساك بمعبر نصيب وبدء الحديث عن عودة جدية للنازحين، هل يجوز أن يستمر عدم التناسب بين هذا الخلل في العلاقات من جهة وبين مصلحة البلدين في صياغة صفحة جديدة بينهما وهل يصح استمرار إهمال دور المجلس الأعلى وبالتالي رمي الملف على اللواء إبراهيم من أجل معالجة كل الملفات الشائكة بين البلدين ومن خلف الستار لا في العلن؟
يؤكد مسؤول لبناني معني بملف العلاقات اللبنانية السورية أن لبنان «يقارب النأي بالنفس بطريقة ساذجة ومن يدقق بهذه السياسة يتبين له أن لا نأي بالنفس فعلياً إلا عن سوريا، المعضلة أن لبنان يفتقد رؤية سياسية موحدة للملف السوري بكل أبعاده»، ويضيف: «لبنان يراعي في تعاطيه مع الملف السوري، الحسابات الخارجية أكثر مما يراعي مصلحته الوطنية. ويكفي موضوع الكهرباء وما يخفيه من تفاصيل كارثية ليستدل على طبيعة تعامل اللبنانيين مع قضايا بالغة الحساسية».
في ملف الإعمار
ويشكل ملف إعادة إعمار سوريا ميداناً مهماً للاستثمار اللبناني حيث يقدر بعض خبراء الأمم المتحدة حجمها بحدود 300 مليار دولار، «وهي تتطلب مقاربة من السلطات اللبنانية لنقاط القوة والضعف بين البلدين ما قد يشكل عاملاً من عوامل إعادة استنهاض الاقتصاد اللبناني المترنح، وعنصراً مفيداً لسوريا من أجل توفير الوقت وتأمين مستلزمات لا يمكن أحداً غير لبنان أن يؤمنها»، ويقول المرجع المعني إن سوريا لن تتعامل بسلاسة معنا على رغم أن المسألة «لا تحتاج إلى اكثر من قرار يحاذر لبنان في اتخاذه إكراماً لدول قررت أن تستخدمه في مواجهة سوريا سابقاً وربما نجدها تهرول للتطبيع قريباً».
لبنان يقارب النأي بالنفس بطريقة ساذجة… ولا نأي بالنفس فعليا إلا عن سوريا
هذا التعاطي اللبناني يدفع سوريا إلى التدقيق في هوية الشركات التي تبدي استعداها للمشاركة في ورشة إعادة الإعمار «هناك فريق عمل مهمته درس الملفات والتدقيق بهوية الشركات التي تتقدم للاستثمار، لا سيما بعد أن سعت أطراف لبنانية محسوبة على السعودية لاستجلاب الصينيين إلى لبنان والدخول عبرهم إلى سوريا، وقد تم بالفعل طرد شركات حاولت دخول سوريا عبر هذه الطرق الملتوية»، على حد تعبير مصدر متابع للملف، ويشير إلى أن «المشكلة في أن البعض لا يزال يعتقد أن الإعمار في سوريا سيحصل عن طريق البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والصحيح أننا سنكون أمام نموذج مختلف، يمكن أن يكون أقرب إلى نظام عمل مؤسسة وعد في لبنان لكن ليس تماماً».
أكثر من عتب
ومع التغيرات التي تحصل في سوريا «لم يعد المنطق اللبناني في التعاطي مع سوريا يجدي نفعاً. اللغة التي تتردد في سوريا أن الاكتفاء بقنوات التواصل الراهنة ليس كافياً والمطلوب التنسيق فوق الطاولة وليس تحت الطاولة».
من يقصد العاصمة السورية في هذه الأيام يلمس وجود «أكثر من عتب سوري» على فريق التيار الوطني الحر والحلفاء استطراداً «ممن كان خطابهم بالنسبة للسوريين مؤذياً وكان يمكن التخفيف من أذاه لو اتخذت خطوات تصالحية أو تواصلية بين الجانبين».
من ملف : لبنان وسوريا: نهاية النأي بالنفس