إنجاز الاكتتاب الأخير بسندات اليوروبوندز هو مناسبة جديدة للتذكير بأن لا شيء يدعو للغبطة والابتهاج. كل ما في الأمر أن وزارة المالية «أقنعت» المصارف اللبنانية بالاكتتاب في الإصدار الجديد، والمصارف مقتنعة أصلا، لأن أبواب التوظيف الأخرى مسدودة أمامها بسبب الظروف السياسية والاقتصادية.
وإذا كان ذلك ينطوي على نجاح لوزارة المالية لأنها قامت بواجب مفروض عليها، وحلّت مشكلة السندات المستحقة، فإن الأمر في حقيقته هو فشل آخر للاقتصاد اللبناني. ديون مترتبة على نفقات جارية، غير مجدية، كان ينبغي تسديدها عند استحقاقها، يؤجّل دفعها، بالدولار الأميركي، لفترات طويلة قادمة تتراوح بين تسع سنوات و20 سنة. الظروف لا تتيح، في ظل تهافت الدولة وسوء إدارتها وانقسامها على نفسها، إلا فرصة الهروب إلى الأمام وتجميع كل المشاكل، وتحضيرها للانفجار في يوم من الأيام…
هذه الممارسة المتكرّرة من شأنها أن تساهم في تشويه بنية التمويل في لبنان، المشوّهة أصلا. بنية، أخطر ما فيها أنها تساهم في خنق الاقتصاد اللبناني عن طريق الحؤول دون توظيف المدخّرات الخاصّة لمصلحة القطاع الخاص. يتساءل اللبنانيون، أفرادا ومجموعات نقابية ومهنية، عن سرّ التراجع المستمرّ في النموّ الاقتصادي وسبب الوصول إلى مشارف الركود. وهم يجمعون على أن السبب هو الانقسام السياسي الحادّ وتعطيل الدولة ومؤسّساتها والمخاطر السياسية والأمنية.
هذا صحيح إذا صحّ التعميم. ولكن التعمّق في جذور المشكلة يفرض الانتباه إلى عامل مهمّ وحاسم يتطوّر بصمت، ويلف بيديه القاسيتين على عنق الاقتصاد اللبناني حتى يكاد أن يصل به إلى شفير الاختناق. إنه تعطش القطاع الخاص إلى التمويل المصرفي الذي يستأثر بمعظمه القطاع العام. هذه الظاهرة المعهودة في لبنان منذ عقود هي أشبه بمنع الهواء عن الاقتصاد، وتركه يموت رويدا رويدا لولا الشحنات القليلة، وغير الكافية، التي يستمدّها من مبادرات سنوية متكرّرة لمصرف لبنان.
ظاهرة قديمة في لبنان؟ نعم، فهي ترجع إلى الوقت الذي تفاقم فيه عجز الموازنة وتضاءلت الموارد الضريبية وباتت الخزينة منافسا قويا للقطاع الخاص على التمويل المصرفي. ولكن الجديد أن تقلص حصّة القطاع الخاص من التمويل المصرفي قد تجاوز الخطّ الأحمر، وبلغ مستويات خطيرة تهدّد استمرار المؤسّسات والمشاريع الخاصّة، وتحول دون قيام مشاريع جديدة، ممّا يقلص النموّ ويزيد الفقر ويمنع خلق الوظائف فيرفع مستوى البطالة.
إنه، بدون مبالغة، حكم مبرم بإعدام الاقتصاد اللبناني.
في الظاهر أن تسليفات المصارف للقطاع الخاص تزيد قليلا عن تسليفاتها للقطاع العام. فقد أظهرت آخر الأرقام أن تسليفات القطاع الخاص بلغت 26% من موجودات القطاع المصرفي فيما تبلغ تسليفات القطاع العام 21% من الموجودات. ولكن، بالمقابل، لا يجب أن نغفل إيداعات المصارف لدى مصرف لبنان التي تعادل 38% من موجوداتها.
مصرف لبنان هو جزء من القطاع العام، كما أنه يوظف جزءا مهمّا من الإيداعات المصرفية لديه في تمويل الدين العام، لذلك يجب احتساب ودائع المصارف لديه، بما فيه الاحتياطي الإلزامي، ضمن حصّة القطاع العام من «كعكة» التمويل. ومن الطبيعي أن مصرف لبنان يدّخر جزءا كبيرا من الإيداعات المصرفية لتشكل صمّام أمان ضد المخاطر، مما سمح له بتكوين احتياطي كبير بالعملات الأجنبية يشكل حماية أكيدة لليرة اللبنانية.
ومهما يكن، النتيجة أن المصارف سلفت القطاع الخاص 26% من موجوداتها فيما أودعت لدى القطاع العام، بمفهومه الأوسع، ما يوازي 60% من الموجودات، وهذا رقم كبير. والنتيجة أيضا أن تسليفات المصارف للقطاع الخاص لا تتجاوز 70% من إيداعاتها لدى مصرف لبنان، وهذا رقم يدعو إلى الدهشة!!!
ورغم أن غاية مصرف لبنان هي حماية الليرة والمساهمة في تمويل الدين العام، في ظل عدم الاستقرار، فإن بلوغ إيداعات المصارف لديه هذا المستوى هو أمر غير صحّي وغير مألوف. المصارف المركزية تستدين من المصارف عادة بأحجام معقولة ولفترة مؤقتة، بقصد امتصاص السيولة المصرفية للجم التضخم والحفاظ على استقرار الأسعار. ولكن اضطرار مصرف لبنان لقبول هذا المستوى المرتفع من إيداعات المصارف، وبصورة مستدامة، معطوفا على تمويل الدين العام، يحبط أي أمل بقيامة قريبة للاقتصاد اللبناني.
هذه المعطيات التي تمنع النموّ، وتدفع الاقتصاد اللبناني دفعا إلى هاوية الركود، ليست مجرّد ظواهر مالية ونقدية، بل هي نتيجة طبيعية ومنطقية للظروف السياسية المحلية البالغة السلبية، في ظلّ الأوضاع الاقليمية المتفجّرة. إنها نتيجة طبيعية لحدّة الصراع السياسي، وإحلال الحقد محل الشراكة الوطنية، ورفع منسوب التوتّر السياسي و «الاستنفار» الطائفي، وتعطيل رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي ومجلس الوزراء، ومنع إصدار مئات القوانين الملحة والقرارات الحكومية المستعجلة، بما في ذلك قانون الموازنة والتشريعات التي تسمح بقبول الهبات والقروض الميسّرة، ناهيك عن القوانين والمراسيم التي تسمح للبنان باستثمار ثروته الموعودة من النفط والغاز.
من يقرأ المؤشرات الاقتصادية في لبنان، عليه أن ينظر بعين إلى الأرقام، وبعين أخرى، بنفس الوقت، إلى واقع ومجريات الحياة السياسية.