أكثر مَن يخشاه أحدُ الديبلوماسيين المخضرمين، هو أن يشعرَ اللبنانيون فجأةً بأنّ البساط يُسحب من تحت أرجلهم، ويجدون أنفسهم أمام أكثر اللحظات خطورة، تبعاً للتطوّرات المتلاحقة من حوله وخصوصاً من الجانب الإسرائيلي».
ما يزعج الديبلوماسي نفسه ايضاً، هو أنّ اللبنانيين، وعلى اختلاف اتّجاهاتهم، منصرفون بكل طاقتهم وقدراتهم الى انتخاباتهم، دون تسخير ولو جزء بسيط من هذا الاهتمام الى الجلبة التي يحدثها الإسرائيليون، والتي تغطي الكثير من المخاطر، وقد سبق أن أشار الى ذلك الرئيس نبيه بري في خطاب يوم القسم في صور قبل ايام. وكذلك السيد حسن نصرالله.
الشرارةُ، كما يقول الديبلوماسي، يشعلها الإسرائيليون فوق الملف النووي الإيراني، بما يؤشر بأنّ إسرائيل على حافة الحرب.
ويستشهد الديبلوماسي بتطوّرات الأيام الأخيرة، فيقول: قبل أيام أطلّ رئيس الحكومة الإسرائيلية وأطلق ما سُمِّيت «فقاعة صابون» تحريضية على إيران، حين عرض ما أسماها «50 ألف وثيقة» حول القدرات النووية العسكرية لإيران.
يقول الديبلوماسي بناءً على رصده التفاعل الدولي مع نتنياهو، إنه لم يُقنع أحداً، فهذه الفقاعة بدت بالنسبة إلى الكل، حتى حلفاء إسرائيل الغربيّين، أشبه برسم «القنبلة النووية» الذي جعله أضحوكة العالم، قبل سنوات، حين عرضه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في مسعىً بائس، لحشد الرأي العام العالمي، للتشويش على الاتّفاق النووي، الذي كانت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما على وشك إبرامه.
ويضيف: اليوم، يعتقد نتنياهو أنه في وضع أقوى من السابق، فإذا كان باراك أوباما قد أحبط آماله إزاءَ استمرارية الضغط أو حتى إعلان الحرب على الجمهورية الإسلامية، فإنّ دونالد ترامب يجاهر علناً بنزعته العدوانية ضد «السلام النووي»، والكل يترقّب ما سيقرّره بشأن «اتّفاق فيينا» بعد أيام، في ظلّ تكهّنات متعدّدة، يذهب بعضها باتّجاه توقع قرار «متطرّف» بالانسحاب من الاتّفاق، وهو أمرٌ مستبعد بالنظر إلى الموقف الغربي العام المؤيّد للتسوية النووية، بينما يذهب بعضها الآخر باتّجاه توقع مجرّد «خطوات تصعيدية محدودة» للضغط باتّجاه «تعديل» الاتّفاق أو «تحسينه».
ويمضي الديبلوماسي نفسه قائلاً في ظلّ هذا الترقّب، يمكن فهم الوظيفة الفعلية لـ»فقاعة» نتنياهو، وهي لا تخرج عن الإطار الابتزازي، الذي يحاول اللعب على النزعة الجنونية لدونالد ترامب، لا بل تغذيتها، وفي الوقت ذاته، إحراج الأوروبيين المتمسّكين، على ما يبدو، بالاتفاق النووي، دونما أيّ تعديل. ولكنّ بؤسَ التحريض والابتزاز الإسرائيليَّين لم يتأخّر ظهورُه كثيراً، فاتّهامات نتنياهو لإيران، أثار شكوكاً في صفوف مؤيّدي الاتّفاق النووي الإيراني، لا بل إنّ جهات دولية عدّة رأت أنّ هذه الاتّهامات تُثبت أهمّية الاتّفاق!
ويشير الى أنّ الوكالة الدولية للطاقة الذرية، على سبيل المثال، وهي الجهة المكلفة مراقبة تطبيق الاتّفاق النووي، جاء ردُّها فاتراً، إذ قالت إنها ستدرس «أية معلومات جديدة» ذات علاقة بالاتّفاق، ولكنها اكّدت أنّ تقييماتها خلال السنوات الثلاث الماضية تظهر بأنه «لا يوجد أيّ مؤشرٍ له مصداقيّة» بأنّ إيران سعت الى امتلاك سلاح نووي بعد العام 2009. كما أنّ وزيرة خارجية الاتّحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني اكدت انّ تصريحات نتنياهو لا تدفع الى التشكيك باحترام إيران للاتّفاق النووي، لا بل ذهبت أبعد من ذلك حين قالت «لم أرَ حججاً لدى رئيس الوزراء نتانياهو حتى الآن عن وجود عدم احترام (للاتفاق)».
ويلاحظ الديبلوماسي أنّ الموقف الأوروبي الذي أطلقته موغيرني، بدا متشابهاً في كلّ من الدول الأوروبية، فوزير الخارجية البريطاني المتشدّد بوريس جونسون رأى في ما قاله نتنياهو دليلاً إضافياً على «حاجتنا الى الاتّفاق حول النووي الإيراني»، وهو ما ذهبت إليه فرنسا، في بيان صادر عن وزارة خارجيتها، التي رأت أنّ «أهمّية الاتّفاق تتعزّز بالعناصر التي قدّمتها إسرائيل.
حتى في الولايات المتحدة وإسرائيل، والكلام للديبلوماسي نفسه، ثمّة مَن شكّك في استعراضات نتيناهو الإعلامية، أو في أفضل الأحوال قلّل من أهميّتها والتعليق الإسرائيلي الأكثر تعبيراً جاء على لسان داني ياتوم، الرئيس الأسبق لجهاز الموساد الإسرائيلي، الذي اعتبر أنّ نتنياهو قدّم «عرضاً مسرحياً» مشيراً إلى أنّ الوثائق التي يتحدث عنها، تتعلّق بالمرحلة التي سبقت العام 2015، أي قبل توقيع الاتّفاق النووي الإيراني.
وحدهما دونالد ترامب، ووزير خارجيته مايك بومبيو، استقبلا «فقاعة» نتنياهو بحماسة، أخفت في الوقت ذاته ارتباكاً عكسته العبارات المتناقضة للبيت الأبيض، الذي قال بداية إنّ «معلومات» نتنياهو تُظهر أنّ إيران «لديها» برنامج اسلحة نووية سرّياً، قبل أن يعدّل الكلام لاحقاً، يستخدم عبارة «كان لديها»!
هنا يشير الديبلوماسي الى بومبيو، سبق أن أعلن، أمام مجلس الشيوخ، في الثاني عشر من نيسان الماضي أن «لا ضرورة لقتل (الاتفاق النووي) لأنّ إيران لم تكن تسعى الى السلاح (النووي) قبل الاتفاق»، فيما يقول اليوم إنه «حان الوقت لإعادة النظر في مدى قدرتنا على الثقة بإيران والسماح لها بتخصيب اليورانيوم». ولعلّ هذا التخبّط يمكن البحث عن «كلمة السر» فيه عند المحقق الخاص روبرت مولر، الذي أثار في اجتماعٍ مع محامي دونالد ترامب في آذار الماضي، إمكانية إصدار مذكّرة استدعاء للرئيس الأميركي، إذا رفض التحدث مع المحققين في ما يتعلّق بالتحقيق الخاص بروسيا.
ولعلّ أمراً كهذا، يفسّر، كما بات معروفاً، الخطوات التصعيدية التي تنتهجها الإدارة الأميركية إزءَ كل الملفات الحساسة، كما حصل مراراً وتكراراً في سوريا.
ويضيف الديبلوماسي «لكنّ الأمر بالنسبة إلى مسؤولي الإدارة الأميركية يسير باتّجاه خطواتٍ محسوبة، بعيداً من التهوّر الترامبي والتحريض النتنياهوي، فثمّة قناعة راسخة، ذكّر بها محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، في خضم هذه الجلبة العابرة للقارات، حين حذّر من أنّ فرض عقوبات على إيران الفرصة للجناح الإيراني المحافظ للضغط على الرئيس الإيراني الإصلاحي، حسن روحاني لإعادة الروح للبرنامج النووي الإيراني، ومنع لجان التفتيش من دخول المنشآت النووية الإيرانية، وبدء عمليات التخصيب مجدداً «بسرعة أكبر بكثير».
بذلك، يقول الديبلوماسي، يستبعد كثيرون انقلابَ المشهد النووي أميركياً، خصوصاً أنّ ترامب يملك ورقة جديدة لحشد التأييد الداخلي، من خلال افتتاح مقرّ السفارة الأميركية في القدس المحتلة، بشكل متزامن، تقريباً، مع إعلانه المرتقب بشأن الاتّفاق مع ايران.
ومع ذلك، فإنّ كل المؤشرات تشي بأنّ سيولة الموقف ربما تؤدّي إلى جعل الرعونة الإسرائيلية تسلك طرقاً تقود إلى مواجهة غير محسوبة النتائج في الشرق الأوسط، خصوصاً في ظل ارتفاع منسوب الاستفزازات الإسرائيلية في سوريا، ومن آخر فصولها الغارة التي قتل فيها عدد من المستشارين العسكريين الإيرانيين، ودفع إسرائيل الأمور إلى حافة الحرب، مع سلسلة إجراءات قد تكون أخطرها مصادقة الكنيست على مشروع قانون يمنح رئيس الوزراء الإسرائيلي سلطة إعلان الحرب، بعد الحصول على موافقة وزير الدفاع فقط، ما يعني أنّ قرار السلم والحرب في إسرائيل بات في قبضة مخادع مثل بنيامين نتنياهو… ومصاص للدماء مثل افيغدور ليبرمان.