لم يكن يوم اليرزة بالامس عاديا لا على صعيد نوعية الضيوف ولا المناسبة. كل التحضيرات انجزت مع بزوغ ساعات الصباح لانجاز مهمة قلما شهدتها باحات وزارة الدفاع، ان لم نقل انها المرة الاولى، لوداع شهداء ليسوا كالشهداء، بل ابطال تناسى كثيرون ان رقابهم الموضوعة تحت حد السكين لاشهر لم تنهك لهم عزيمة ولم تزرع خوفا في قلوبهم فانتصروا على السكين وهزموه فلا انشقوا ولا بايعوا في سبيل لحظة حياة اضافية، بل آثروا العودة شهداء احرار.
فمنذ اليوم الاول لكشف مصير العسكريين اراد قائد الجيش العماد جوزاف عون تكريما غير عادي بمستوى الوطن يليق بالشهداء العائدين بعد غياب وبأهاليهم الصابرين على جرح طال نزفه، فكانت فكرة الوداع الرسمي في باحة العلم في وزارة الدفاع، التي لم تشهد مرة رفعا لصور اشخاص على سورها، بحضور الرؤساء الثلاث، الذين بدورهم نادرا ما اجتمعوا في حفل مهيب في قيادة الجيش، وسط ترتيبات اشرف قائد الجيش شخصيا على ادق تفاصيلها موليا اهتماما خاصا لكل ما يتعلق بأهالي العسكريين الشهداء وتقديم التسهيلات لهم وتأمين اماكن جلوسهم.
فالاجراءات الامنية جاءت استثنائية بالفعل لجهة «عدم التشدد المقصود» بتعليمات واضحة من القائد لعناصر فرع المكافحة المولجين تأمين حماية مقر الوزارة بعدم ازعاج الضيوف وبخاصة الاهالي، اذ كان اي اشكال يحل بأقصى سرعة وبتعاون لافتين وتقديم كل انواع المساعدة، ما لفت زوار «الدفاع»، ليكتمل العقد مع وصول رئيس الجمهورية، الذي استبقه بالتغريد عبر حسابه الخاص على تويتر قائلا «بشهادتكم تكبر الاوسمة ويكبر الوطن»، الذي تواجد لاستقباله عند المدخل وزير الدفاع وقائد الجيش، قبل ان تدخل الى الساحة النعوش العشرة محمولة على اكف رفاق السلاح من الشرطة العسكرية.
ومع كل قرعة طبول كانت تزداد دقات القلوب، خصوصا مع القاء قائد الجيش كلمته المعبرة والتي جاءت في الشكل مختلفة عن كل الكلمات السابقة معبرة عن شخصية المغوار القادم من عرسال الجامعة بين «القائد الصلب والاب الحنون». كلمة لفتت في الشكل والهدف اذ جاءت في قسمين، الاول عاطفي انساني تفرضه مهابة المناسبة، والشق الثاني اكد فيه على عزيمة الجيش وتصميمه على متابعة واكمال المسيرة والمهمة مهما غلت التضحيات، والتي لم ولن تنتهي بدحر الارهاب من الجرود وتحرير الارض، انما ستستمر ضد الخلايا النائمة بذئابها المنفردة، وضد دولة الارهاب عند الحدود الجنوبية، في رد واضح على المشككين بدور الجيش في المستقبل ومهمته.
غير ان انتهاء المراسم الرسمية حول لقاء القائد بالاهالي الى عائلي، حيث وقف بينهم كأب حاضن لاولاده، مستمعا باهتمام، وعلى وجهه علامات التأثر التي رافقته طوال الوقت محاولا اخفاءها خلف شخصيته القيادية، والتي بدت اكثر وضوحـا وسط دعاء الاهالي له ووضعـهم امانة الحقـيقة بين يديه هو الذي وعدهم ووفى بوعده، رافضا منع اي كان من قول كل ما يريد، معيدا التأكيد بان «حق كل عسكري برقبتي»، شارحا لهم اصراره على تقديم العلم شخصيا لكل عائـلة تكـريما منه وتـقديرا للشهداء وعائلاتهم، «العلم هو الوسام الاعلى الذي يمكن لشـهيد ان يأخذه، وانتم حزتم عليه» على ما قال لهم، في لفتـة ما درج قائد جيش على فعلها،بعد تكريم رئيس الجمـهورية العماد ميشال عون بدوره وعلى طريقته الشهداء بوضعه شخصيا رغم الشمس الحارقة والحرارة المرتفعة الاوسمة على النعوش.
بروتوكول لم يخرقه سوى استعجال رئيس الجمهورية للمغادرة قبيل دقائق من اختتام الاحتفال الرسمي نظرا لارتباطه بموعد اجتماع المجلس الاعلى للدفاع من جهة، وابن الشهيد صالح الذي خرق «خصوصية» المنصة الرسمية متحولا الى نجمها حاز اهتمام الضباط الحاضرين و«القائد» الذي داعبه في كل مرة اقترب منه فيها ببسمته، هو الذي لم يدرك حقيقة ما يجري متمسكا بالعلم الذي تسلمه مع والدته.
وفيما كانت السفارة الاميركية في عوكر تبرق معزية منكسة العلم الاميركي حدادا على شهداء الجيش اللبناني في لفتة استثنائية، كان اهالي العسكريين يصرون على تقديم البقلاوة للملحقين العسكريين فردا فردا معتبرين انه يوم عرسهم الوطني، وسط ذهول الضيوف من عزيمة الاهل غير مدركين لما يحصل، حتى ان حسين يوسف لم ينتظر ان يبادر المسؤولون الى السلام عليه، بل راح يتنقل عند المنصة الرسمية ملقيا التحية رغم العتب على بعض من الحاضرين، قبل ان يشكر بلياقته المعهودة الاعلاميين على وقوفهم الى جانب قضية الاسرى طوال الفترة الماضية، رافضا اي حديث عن دعاوى او شكاوى تصغر امام مهابة الحدث.
انتهى يوم اليرزة بانعقاد المجلس الاعلى للدفاع وتأكيده على السير بالتحقيقات لجلاء كل الحقائق، وبخبر اثلج قلوب كثيرين عن نجاح طائرات التحالف الدولي بالثار للشهداء وقتلها حوالى 85 داعشيا من الفارين من مرطبيا، قبل ان تصل الجثامين الى مثواها الاخير، لترقد على امل الراحة بعد كشف مستور ذاك الآب في 2014، بعدما كللوا بالمجد مؤسسة علمتهم الموت بشرف وتضحية ووفاء للحفاظ على علم بلادهم وذودا عن وطنهم لبنان، فاستحقوا اكليل الغار بعدما وفوا بالوعد والعهد…. والله العظيم.