«رأيت المنايا خبط عشواء مَن تصب تُمته ومَن تخطئ يعمر فيهرم ومَن لم يصانع في أمور كثيرة يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم» زهير بن أبي سلمى
في البداية لا يمكن لأيّ عاقل أن يبرّئ بشار الأسد من جرم تهجير ملايين السوريين وقتل وجرح وإعاقة بضعة ملايين سوري، وتدمير معظم المدن والقرى السورية، وتحويل سورية بأكملها إلى مقبرة للسوريين، وتحويل حاضراتها التي صمدت أمام الزلازل وهجمات التتار إلى أطلال.
فنحن ولو أردنا إدخالَ داعش والنصرة في المعادلة، فإنّ السنوات الأولى من الجرائم كانت كلها براعية بشار وذلك حتى قبل ظهور السلاح في يد المعارضة، ومن بعدها دخل «حزب الله» وساهم بشكل واسع في زيادة النزوح والتهجير من خلال إطالة عمر نظام بشار، وبالتالي إطالة أمد الحرب واستعصاء الحلول السياسية.
من بعد كل ذلك، تفلّتت وحوش التطرّف بشكلٍ مريب، ممّا أدى إلى إعادة تعويم نظام كان من الأجدى للبشرية أن تدفنه في مزبلة ما وتهيل فوقه أطنان الركام.
لكنّ الحديث عن العدالة ليس إلّا وهماً، ومجرد نشيد يغنّيه الضعفاء في مواجهة المتسلّطين والطغاة، وإن تحققت العدالة، في يوم ما، فلم تكن إلّا على يد ظالم آخر…
ما لنا ولهذه النظريات اليائسة، فالحديث اليوم هو حول الجدل الدائر بخصوص التواصل مع بشار لحلّ معضلة وطنية كبرى إسمها اللجوء السوري إلى لبنان.
من حيث المبدأ، مخطئ مَن يظنّ اليوم أنّ هناك خلافاً في لبنان حول خطورة قضية الوجود السوري فيه، وذلك على الرغم من غياب أيّ إحصاءات دقيقة حول عدد وتوزيع هؤلاء وأسباب لجوئهم، كما أنّ التأثير الإقتصادي يفتقر إلى أرقام واضحة حول العمالة والمنافسة وحول حجم الإقتصاد الناشئ بسبب وجود مليون ونصف مليون شخص إضافي في البلد… المهم هو أنّ الجميع تقريباً يعتبرون هذا الوجود خطراً حقيقياً على الكيان اللبناني، والمؤسف هو أنّ العنصرية في التعامل مع هذا الموضوع أصبحت سمة جامعة للبنانيين، بغض النظر عن طوائفهم وأحزابهم، وهم الذين لم يجتمعوا على رأيٍ واحد في تاريخهم!
على هذا الأساس، فلنكن براغماتيين في سعينا لحلّ هذا الإشكال الخطير، وهناك رأي، ولنعتبره للحظة غير مغرض أو خبيث، يقول بضرورة التواصل مع منظومة بشار لحلّ قضيّة اللجوء.
السؤال البديهي هو كيف سيؤدّي التواصل الرسمي مع بشار إلى دفع أكثرية اللاجئين للعودة إلى بلادهم؟
فإن كان منهم مؤيّد لبشار وأتى إلى لبنان رغم ذلك، فقد كان بإمكانه العودة إلى مناطق تسيطر عليها بقايا النظام، والمعني هنا الساحل السوري ومناطق أخرى بقيت بعيدة من المعارك. وبالتالي فليس على بشار إلّا توجيه أوامره لهم للعودة كرئيس يعترفون به ويأمنون له، وما من داع إذن للتواصل معه من أجل ذلك.
أما من ناحية الآخرين الذين هجّرهم بطش بشار، وهم أكثرية، فحتى ولو صفت النيات وحصل عفو عام، فمن المستبعد أن يصدّق معظم الهاربين جدّية هذا العفو، وذلك بناءً على تجارب طويلة مع منظومة الأسد على مدى عدة عقود من الزمن. بالتالي فإنّ إمكانية أن يؤدّي ذلك إلى عودة هؤلاء بدعوة من بشار، مع أو من دون تفاوض معه، تصبح من رابع المستحيلات.
وقد يأتي مَن يقول بأنّ الحكومة اللبنانية متواطئة مع بشار للنيل من المعارضين، وهم من فئة دينية مذهبية معروفة، ومن هنا سيُستعاد الجدلُ الأزلي بين الشعوب اللبنانية حول إتّهام البعض للآخر برغبته في إبقائهم من أجل التغيير الديموغرافي الهش، وبالمقابل سيردّ الآخرون بوجود مؤامرة ضد السنّة في المنطقة…
الواقع هو أنّ بشار لم يهجّر هذا العدد الهائل من السوريين داخل سوريا وإلى خارجها ليعيده ببساطة وحسن نيّة! فما سعى إليه ويريد تثبيته هو تغيير التركيبة المذهبية السورية عبر ترانسفير مقصود لما هو ممكن من سنّة سوريا، وبالتالي فإنّ آخر شيء يريده بشار اليوم هو رؤية بضعة ملايين منهم يعودون الى سوريا.
ولا يجب أن نتجاهل أيضاً التطهير المذهبي الذي تولّاه «حزب الله» في القصير والقلمون والزبداني والتبادل السكاني الذي حصل بين المناطق، فهجّر مواطنين من مذهب ليحلّ مكانهم آخرون من مذهب آخر.
وبالتالي فإنّ مسألة التفاوض لعودة اللاجئين التي يطلقها بعض قادة تلك الميليشيا ما هي إلّا لذرّ الرماد في العيون واللعب على هواجس اللبنانيين المتطيّرين من الخلل المذهبي الذي سيسبّبه الوجود السوري إن طال في لبنان.
ما هو الحلّ إذن في ظل كل ذلك التعقيد؟
بصراحة إنّ الأمور واقعة الآن في نقطة مستعصية على الحل، والقضية مرتبطة بحلول أوسع من هواجسنا في لبنان، وهي بكل وضوح في يد صنّاع القرار الموجودين على الساحة ما بين روسيا والولايات المتحدة، أما الآخرون من لاجئين وغير لاجئين، من شعوب موجودة بالصدفة في هذه المنطقة وفي هذه اللحظة من التاريخ، فما هم إلّا ورقة في مهب الريح…