IMLebanon

 عن اليسار والشيوعيين ووقائع الغياب

ما الذي يطالع المراقب للحيوية الفكرية اليسارية في بلادنا؟ نكاد نقول لا شيء وازن، بل إن السائد هو غياب المحاولات الحقيقية في هذا المجال، مع أن كمّ القضايا اللبنانية يتطلّب المسارعة إلى الانخراط في ورشة التساؤلات والمقاربات.

فنحن لا نقع عند الشيوعيين عموماً على جديد في الطرح الفكري، ولا على فتح سجالات فكرية واعدة. حيال هذا الأمر تختلف أسباب الشيوعيين، كما تختلف ممارساتهم. فإذا كان فريق منهم قد حاول، ثم رضي من الغنيمة بالإياب إلى مسقط رأسه الماركسي اللينيني، فإن فريقاً آخر أطال المكوث في إطار بلورة المحاولة. لا يعدل ذلك من الحكم العام: غياب شيوعي أيضاً عن ساحة السجال الفكري الفاعل والمتفاعل، مع اختلاف الأسباب.

في خلاصة أولية، يقفز إلى الواجهة سؤال الحضور السياسي الفاعل لليسار، في ظل غياب القدرة على إعادة تحديد الذات فكرياً، ومن ثم على إعادة تأطيرها تنظيمياً، ومن ثم تبيان أسس العلاقة الجديدة بين تشكيلات أي تنظيم، وصيغة العلاقة بالمجتمع؟ هذا السؤال المركب يمهد السبيل لسؤال الشرعية السياسية لليسار، التي من شروطها حمل مصالح وطنية واجتماعية كبرى، والنطق باسم فئات اجتماعية محددة، والسعي إلى إكساب هذه المصالح والقضايا حضوراً وازناً في جدول الاجتماع اللبناني العام كما في أولويات سياساته.

في ضوء ذلك، ما واقع اليسار الاجتماعي حالياً؟ يمكن المغامرة بالقول إن اليسار اللبناني غير محدد اجتماعياً حالياً، أي غير معرّف ببيئة اجتماعية، وبقوى وبشرائح وبفاعليات، محددة هي الأخرى بتعريف وبخطاب وبآليات عمل وبأهداف. لا مجال للمطالبة هنا بإعادة قسر اليسار على التقوقع ضمن طبقة طليعية هنا، أو افتراض دور طليعي لقوى وهوامش اجتماعية هناك، لكن الأمر يفيد إذا أخذ على سبيل المقارنة. لقد كانت لليسار سابقاً تحديداته الاجتماعية الطبقية، فأين أصبح الأمر الآن؟ هل ما زلنا أمام تحالف قوى الشعب العامل؟ والطبقة العاملة؟ أما زال التذبذب سمة البورجوازية الصغيرة فلا نقيم معها عهداً وثيقاً؟ وماذا حلّ بالبروليتاريا الرثة، وحركة الطوائف المحرومة؟ هذه الأسئلة وغيرها عبّرت عن واقع تحديدات، وعن سبل قراءات وتحركات، وهي أشارت إلى واقع نفوذ كان لليسار عموماً ضمن هذه البيئات. لا يقدم اليسار في واقعه الحالي قراءة جديدة للوحة الاجتماعية اللبنانية، وبالتالي لا يعين لنفسه مواقع فعل واضحة، ولا يتبنى سلّم أولويات، لذلك يحل الاستنساب الموسمي في التحرك محل الخطة الدائمة، ويتقدم استنساب الأطر التنظيمية التجميعية، التي تموت غالباً يوم ولادتها، على قراءة التأطير الاجتماعي أو الاستقطاب الأهلي، الذي آل إليه اجتماع اللبنانيين.

في خلاصة أولية على هذا الصعيد أيضاً، لا يمكن الهروب من القول إن نفوذ اليسار الاجتماعي قد تضاءل إلى حد بعيد، وإن رقعة تحركه ضاقت، بالتناسب مع انحسار انتشاره وهامشية وجوده، حيث ما زال يحتفظ بشيء من هذا الوجود.

من نقطتي الهوية الفكرية الواضحة، والموقع الاجتماعي الوازن، اللتين يفتقر إليهما اليسار اللبناني في واقعه الراهن، نطل على الواقع السياسي لهذا الأخير.

يبدو اليسار هنا على الهامش من كل شيء. هو يسار الوقوف أمام تجربته من دون التجرؤ على تقويمها ونقدها. وهذا يعني عدم الإقدام على فتح منافذ تنفّس سياسي للبلد خارج لغة الطوائف، وفي مواجهة ضجيج المذاهب، ووضعاً للأمور في نصابها في مقارعة قراءات التزوير والتلفيق. في هذه الساحة، تخلّى اليسار عن سلاحه النقدي، وارتضت منوعاته خوض معارك سياسية من حالة الحركة الدائمة، فلا ثبات في موقع، ولا رسوخ في قناعة، ولا إقامة على تحالف. بذلك ساهم اليسار، بسبب من ترحاله بين الطروحات والمواقف والقوى، في زيادة هامشيته وفي بقائه قوة قيد الاستحضار، في معركة استقواء سياسي من اللاعبين الأساسيين في التشكيلة السياسية، أو في إطلالة إعلامية يطغى فيها الماضي غير المساءل على هموم المستقبل ومهماته، أي أن اليسار بما تبقى منه، بات راضياً بالحضور، من دون السؤال في كثير من الأحيان عن كيفيته.

لهذا السبب، شاهدنا تخبّط اليسار في سعيه الى تأمين حضوره ضمن المشهد السياسي، أو على سطحه ما دام التأسيس في قلبه عزيز المنال، فلقد توالدت هيئات، وتناسلت منابر وتجمعات، واختلط طرح شعبوي بآخر ديموقراطي، بثالث ليبرالي، ثم انتهى الأمر، من دون طرح سؤال «لماذا» حقيقي عند التئام عقد المجتمعين، ومن غير طرح سؤال «لماذا» حقيقي بعد انفراط هذا العقد!. السهولة السياسية أغرت الجميع، والاستسهال صار سياسة، وهذا واقع مغاير لما كان عليه أمر اليسار في السابق، عندما كان مسؤولاً عن اشتقاق صيغه الخاصة، وعن مقارعة أطروحات القوى السياسية الأخرى وتفنيدها، كأن اليسار الآن عالق في الهواء، فلا خصم يقارعه، ولا بوصلة يريد الاهتداء بها، ولا أرضية يريد الوقوف عليها. ولا استقلالية تميز الوجود اليساري الذي وافق بعض أطرافه على إعارة راياته للطوائف، فبات مدافعاً عن «نظرياتها» ومقاتلاً تحت لواء هذه النظريات.

ما ذهبنا إلى إيراده، يقدم واقع اليسار، وهذا يفتح الموضوع ولا يقفله. فتردّي أوضاع اليسار، لا يلغي خانته، وضعفه الحالي لا يطيح موقعه الموضوعي، ذلك لأننا نزعم أنه من دون خطاب وطني عام، يتجاوز الخطاب الطائفي السائد، لا يمكن استئناف مسار سياسي لبناني سويّ، ونزعم أيضاً أن اليسار اللبناني مرشح لأن يكون قوة الدفع الأولى نحو هذا التجاوز.