مما لا شك فيه أن الإنتخابات الإيرانية قد أسفرت عن نتائج لم يتوقعها كثيرون، وقد لخص تقييمَها، المسؤول الإصلاحي شكوري راديان، بأنها تفوق توقعات الجماعات الإصلاحية، كما وصفها بعض الإعلام الإصلاحي بأنها «ستنظّف البرلمان»، وأن البرلمان المقبل لن يكون مثل أي برلمان آخر في تاريخ إيران لأنه لن يكون هناك فصيل سياسي ينفرد بالرأي.
نتناول الإنتخابات الإيرانية بهذا التعليق نظرا للإندفاعات الإيرانية غير المسبوقة على مدى العالم العربي بأسره مفتعلة فيه كل ما تقدر على فعله من تحريك لمليشياتها المحلية المسلحة والموجهة إلى قلب كلّ المواقع وكلّ الطاولات التي تحيط بها وتمسك بخيوطها، كما هو الحال في اليمن والعراق والبحرين، وصولا إلى سوريا، المنكوبة الأولى «بالأفضال» الإيرانية. ولكون حزب الله، ممثل السلطة الإيرانية ومتفرعاتها الثورية والعامل الفاعل باسمها على مدى لبنان كلّه، والضاغط على مفاتيح السلطات اللبنانية جميعا والضابط لكل إيقاعاتها والمانع لمسيراتها عن التكوّن، كْمِثل ما هو فاعل في قضية الإنتخابات الرئاسية، حيث أضحت رئاسة الجمهورية لدينا… بلا رأس، ومحَاطةً بكلّ وسائل الحظر والممنوعية.
نتناول الإنتخابات الإيرانية لأنها تمثل قفزة إصلاحية إلى الأمام، برزت فيها حشود الناخبين بشيء من الإختلافات عن الأوضاع الإنتخابية السابقة، خاصة في طهران التي تمثل المزاج السياسي الإيراني الحقيقي الذي تنطلق منه شعاعات المعارضة الحقيقية لسياسات التطرف، المتمثلة بشكل خاص بتوجهات الحرس الثوري والزعماء المتشددين، ويكفي أن تكون نتائجها الإنتخابية كاسحة إلى هذا الحد، مشيرين في هذا المجال إلى أن كبار المرشحين المتشددين، قد وقعوا في شباك السقوط في صناديق الإقتراع، وأن الإختراق الذي حققه الإصلاحيون في طهران، خاصة في انتخابات مجلس الخبراء، قد وضعهم في موقع متميز إن لم يُمكّنهم تحقيق التوقعات بأقصى درجاتها، فهو سيدفع بهم إلى مواقع أفضل ترفع من نسبة النتائج الإصلاحية في كلّ المجالات، وتخفّض من منسوب التطرّف الذي عرفناه عن الوضع الإيراني السابق.
وبالرغم من الإنتصار المعارض، ولو بحدود وقيود ما زالت موجودة، فإن كثيرين من المتعمقين في دراسات الوضع الإيراني، يركزون على أن المرشد لا بد وأنه كان على حدّ أدنى من التفاهم مع الرئيس روحاني، ومن خلاله أيضا مع الفائز الإصلاحي الأول الرئيس السابق رفسنجاني، الأمر الذي مكّن الإصلاحيين والمعتدلين والمستقلّين من تحقيق هذا النصر النسبي الملحوظ، ومما ساعد على هذا الفوز ودفع إليه، الغليان الواسع في الشارع الإيراني الذي يعاني منذ سنوات طويلة من وضع إقتصادي ومعيشي متدن ومتفلت، الأمر الذي خلّف فقرا وتأزما حياتيا، جنبا إلى جنب معاناة كبرى للشعب الإيراني على مستوى الحرّيات السياسية والفكرية والثقافية وما عاناه من عمليات الكبت والقهر وطغيان السلطات الأمنية، خاصة منهم تلك الفئات المنتمية إلى أديان ومذاهب وأتنيات أخرى، وهي فئات ما زالت أخبارها في مواجهة الميليشيات الإيرانية المسلحة، طيَّ الكتمان والإخفاء الشديدين.
المرشد خامنئي الذي أمسك ويمسك بخيوط ومفاتيح البلاد بيد من حديد، مدعوما بالجهات الإيرانية المتطرفة، وبالحرس الثوري على وجه الخصوص، أدرك على ما يبدو مدى وأهمية الغليان الشعبي الذي حذّره منه كثيرون ومن بينهم الرئيس روحاني، وأدرك أن الحال الإقتصادية ووضعية الحرّيات السياسية، اذا ما استمرتْ على وضعها المتدهور القائم، كانت ستدفع بالشعب الإيراني، إلى حالة انفجارٍ وتمرّدٍ لا يعلم مداها إلاّ الله، من هنا سارع مع الرئيس روحاني إلى كل تلك الإجراءات الإصلاحية وفي طليعتها، إنجاز الإتفاق النووي الذي لاقى ترحيبا واسعا لدى عامة الشعب لما فتحه في وجوه الإيرانيين من آفاق تعيدهم إلى مسالك الحياة الطبيعية، وسهّل لترتيب الوضع الشعبي الذي حقق فوزا معقولا من خلال انتخابات تساهم في نقل الإيرانيين من حال إلى حال، الأمر الذي سيُسهّل الطريق كذلك أمام الرئيس روحاني بأن يمسك شيئا فشيئا، بمقاليد الأمور ليكون إن سمحت له كثير من الظروف المقبلة والمتوقعة، بأن يكون المرشد المقبل في إيران، خاصة وأن الوضع الصحي للمرشد خامنئي قد لا يعطيه المدى اللازم للإستمرار في موقعه.
نصل إلى هذه النقطة العمومية لننطلق منها إلى النقطة المركزية التي تنال الإهتمام العربي عموما والخليجي خصوصا، وكذلك تلك النقطة التي تهم لبنان واللبنانيين، لما لإيران من درجة إمساك قاسية بأعناقهم، ولما لها من أثر في التركيبة اللبنانية وسلطاتها ومواقع القرار فيها، علّنا نجد في هذه التحوّلات، كّوة للنظر إلى المستقبل القريب في هذا البلد المنكوب، الذي لا ينتهي من مصيبة حتى يقع في مصيبة أدهى وأشد، ولعل أوضاعه المتأزمة مع السعودية وبلدان الخليج تعطينا أوضح مثال على حجم المصائب التي بات لبنان غاطسا فيها حتى الأعماق بسبب الإنقياد الكامل للمخطط الإيراني الثوري وتفرّعه في الانغماسات العسكرية في شتى أنحاء العالم العربي، وصولا إلى العديد من البلدان الإفريقية وما تيسر من الأماكن التي تطالها يد الحزب وتعليمات موجّهيه.
لن نكون سطحيين في تفكيرنا وفي تطلعاتنا لنعتبر أن تحولات جذرية قريبة ستنقل أوضاعنا الملتهبة من حال إلى حال، فالمتطرفون في إيران، بمن فيهم الحرس الثوري، ما زالوا قابعين في مواقع السلطة الحقيقية عينهم على المستجدّات الحاصلة، وسلاحهم مصوب إلى المواقع التي يرون فيها خطرا على توجهاتهم، إلاّ أننا نماشي الخبراء في الأوضاع الإيرانية، في اعتبارهم بأن ما هو حاصل يمثل خطوات إصلاحية متقدمة إلى الأمام، وكوّة تُدخل إلى نفوسنا وعقولنا وتطلعاتنا، بعض الضوء وبعض الأمل، راجين أن تتلاقى إرادة شعوبنا وفي طليعتها إرادة الشعب الإيراني بما نتوقع منه ولو بكثير من التحفظ، من خطوات تعيده قولا وفعلا إلى إطار المجتمع الدولي والمصالح الدولية المعهودة والمشهودة، وإلى وضع حد لسياسة التدخل في شؤون البلدان الأخرى، وخاصة منها البلدان العربية، الأمر الذي سيعطي لنا جميعا فسحة واسعة في الحياة الطبيعية، تخوّلنا إستثمار كل ثروة لدينا، كبيرة كانت أم صغيرة، مادّية كانت أم معنوية، في تنمية أوطاننا، وما أحوجنا جميعا إلى هذه التنمية التي مهما زادت ثروة بعضٍ من بلداننا لأي سبب من الأسباب، فهي ستبقى وإلى أمد بعيد مقصّرة في الإرتقاء إلى المدى المطلوب في حياة الشعوب المتطورة والمتقدمة.