طوال الأسابيع الماضية انزلقت الأمور إلى الجدل السياسي البيزنطي، وفي بلدٍ مثل لبنان ترف هذا النوع من أنواع الجدل لاتحمد عقباه لأنّه يؤدي بالشوارع إلى التشنّج والتراشق، ويشبه البلد عصفوريّة، بل ربما البعض تناسبه جدّاً حال العصفوريّة، لكن يكم العقل والتعقّل في تفويت الفرصة على هذا البعض، وبالرّغم من أنّ هذه العصفوريّة تكاد تسحب الجميع إلى داخلها كـ «ثقب أسود»، تمارس القوات اللبنانيّة كحزب سياسي «نموذجي» سياسة ضبط النّفس وضبط المناصرين، مفوّتة الفرصة على من يسعون إلى استعادة خطاب وتراشق ما قبل اتفاق معراب التاريخي.
لماذا القوات كحزب «نموذجي»؟ لأنّ اللحظة التي كان كثيرون يسنّون سكاكينهم وأسنانهم للوصول إليها والبناء عليها لإعادة الساحة المسيحيّة إلى ما قبل اتفاق معراب، سقطت في لحظة انضبط الجميع تحت سقف كلمة «ملتزم»، على الأقل هذا ما يخلص إليه من يتابع القواتيّين على مواقع التواصل الإجتماعي، بتغريدة واحدة جاءت في أربع مقاطع من رئيس حزب القوات اللبنانيّة «القائد» الدكتور سمير جعجع، و»ملتزم» عند مطلق قواتي تعني «تمّ الأمر»،
بالأمس سجّلت القوات اللبنانيّة كحزب وفريق سياسي شكّل نصف المعادلة في إنقاذ موقع رئاسة الجمهوريّة من الفراغ ـ ولا ينكر فضل القوات وفضل قائدها إلا جاحد وأحمق ـ موقفاً متقدّماً جدّاً وضع نقطة على سطر العبث بالساحة المسيحيّة والتي يعني أي اهتزاز فيها اهتزازاً كبيراً على الساحة اللبنانيّة بتسجيلها هدفاً قوياً في مرمى العابثين عبر «الموقف اليوم» إذ حسمت كلّ ضجيج الأسابيع الماضية وبوضوح شديد «لكل من يريد ضرب علاقة «القوات» بالعهد: خيِّط بغير مسلة، فالمصالحة لن تهتز، وعلاقة «القوات» بالعهد مبنية على رؤية سياسية وقناعات وطنية».
حتى اليوم، استطاعت القوات اللبنانيّة أن تفشل كلّ محاولات الإنزال خلف خطوط المصالحة المعرابيّة التاريخيّة، وكلّ معاولات تسعير الموقف بينها وبين العهد ومحاولة تصوير الخلاف في ملفّ تشكيل الحكومة على أنّه استهداف لهذا العهد، بصرف النظر عن قراءتنا الشخصيّة لصمت العهد عن ممارسات فريقه المستفزّة إلى أبعد الحدود والتي تحظى فقط برضى مناصري تيّار العهد!
كان من المفيد بالأمس أن تسجّل القوات اللبنانية موقفاً من حال السّجال السياسي المحتدم والذي بلغ حدّ الرّدح المقزّز لمجرّد ادّعاء الوجود، إذ كادت المعادلة في الشحن السياسي تصبح «أنا أشتم، إذن أنا موجود»، قطعت القوات الطريق على هذا المشهد المرهق بإعلانها أنّ «الرأي العام اللبناني ملّ السجالات السياسية وينتظر أفعالا معيشية واقتصادية، وإذا كان يعتقد ان المنطق السجالي يستجلب التأييد السياسي، فهو مخطئ تماما لإن هذا المنطق بدأ يستجلب النقمة السياسية».
كأيّ مواطن يتابع عن كثب تفاصيل «الهرطقة» والحرتقة السياسية على القوات اللبنانية وغيرها من الفرقاء، وفي مقدمهم رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري، نجد أنّه لزام علينا أن نقول إنّ سياسة «اليد الممدودة» التي ألزمت القوات اللبنانية نفسها بها ـ بالرّغم من مرارات هذا النّوع من السياسة ـ تجعل القوات اللبنانيّة كحزب سياسي مستهدف إلى أبعد حدود لإقصائه، تعي جيداً أنّ أفضل ما تفعله هو الاستمرار في سياسة «يد القوات ستبقى ممدودة لكلّ من يتوسّل الحوار البناء من أجل البلد ومصلحة النّاس»، وهنا لا بدّ من طرح السّؤال: من يعطّل البلد ومصالح النّاس وتشكيل الحكومة ومعنى الإلتزام هل سيفهم ويقدّر معنى سياسة «اليد الممدودة»؟ أشكّ كثيراً في ذلك.