التظاهرات التي قامت بها جماعة «طلعت ريحتكم» في بيروت، من حسناتها، انها «اخترقت» الطوائف والطائفية، وكذلل التقسيمات السياسية «السائدة» تحت شعار مطلبي يتعلق بكارثة النفايات. فالعنوان السلمي تَصدَّر المشاركين. والنقابي «قاد خطاهم». هذا الاتجاه «النقابي» وهذه السلمية، رافقتهما، منذ البداية أعمال العنف، موجهة تحديداً إلى قوى الأمن الداخلي، حتى وصلت إلى احتلال مبنى وزارة البيئة. فالوجهة السلمية إذاً مشوشة بالزجاجات الفارغة والمفرقعات، ومنهم من قال بالمولوتوف. ازدواجية، في مفهوم التحرك، فلا هو سلمي خالص، ولا هو عنيف خالص: خلطة، قد تكون «فخاً» لهذه التظاهرات، وإلى المجتمع المدني وهو الغالب جماعات مفلتة سائبة «غير مدنية» سميت «مندسين» والأولويات أيضاً غير ميسرة. فمن أزمة النفايات، طلعت أصوات تطالب بإسقاط النظام وأخرى بحل مجلس النواب. وأخرى بإسقاط الحكومة أو بإسقاط الطبقة الحاكمة، وأخرى بإسقاط الدولة كلها. من النفايات إلى مصير الدولة. بمعنى آخر، فان سُلّم الأولويات لم يعد واضحاً. ولا الرؤية. ولا المسار. حتى إن «أجندة» التحرك صارت «سرية» عند أصحابها «نقول لكم متى وكيف». لكن من حق المتظاهرين ان يشاركوا في وضع الأجندة أو على الأقل في الاطلاع على «بوصلتها». يقولون «عنصر المفاجأة»! عال! لكن مفاجأة من؟ المشاركين أو المسؤولين، أم الحكومة… أم النظام؟ لهذا، وجدنا انه في التظاهرة الأخيرة التي اُحتلت فيها وزارة البيئة، واستمر رشق قوى الأمن بالحجارة والزجاجات الفارغة، ان ثمة انقساماً داخل هذه المجموعات، انقسامات علنية.
جماعةٌ مواظبة على تحويل التظاهرات عن سلميتها ومدنيتها إلى عنفيتها، وأخرى تحاول حماية رجال الأمن من بعض المنخرطين في صفوف المشاركين. فئة تريد أخذ التحركات إلى أمكنة أخرى غير التي أعلنتها في بياناتها، وفئة تريد تعميق التحركات بالمحافظة على «حضاريتها» ومدنيتها. فئة تريد التصعيد في المواجهة بأدوات عدائية مادية وكذلك بأدوات عنفية رمزية (الخطاب واستخداماته وألفاظه ومراتبه وهو لا يختلف عن الخطب السياسية التي يفترض أن يمجها القيمون على هذا التحرك). إذاً لا أجندة ذات أولويات ولا وضوح في طبيعة «المواجهة» ولا حتى في المواعيد ولا توحيد في كل هذه المعطيات. خطابان يسودان لا خطاب واحد. والاتفاق بين المشاركين يمكن أن يتم قبل البدء بالتحركات، عبر الحوار داخل مكونات الحركة الاحتجاجية، لا أثناء تنفيذها في الشارع وأمام الاعلام المرئي والمكتوب والسمعي. وأكاد أقول إن هذا التشوش، غير التبادلي في الرؤية هو نوع من ارتجالية مشاركين يفتقرون أولاً إلى تجربة التحركات وكذلك إلى وضوح المطالب. فلم تعد مطلبية ولا سياسية بل الاثنتان حيث يؤدي تلازمهما إلى تنافر، وإلى صدام بين هذه المكونات. لكن المسألة الأساسية التي تبرز من خلال هذا الاختلاط هو نزع مسألة النفايات من «أسبابها» ومن الظواهر الأخرى المطلبية: لماذا النفايات فقط، وليس الكهرباء؟ أو المياه؟ أو الطرقات؟ أو الظواهر البيئية الأخرى: كالتوحش في التعامل مع الطبيعة والقضاء على الثروة الحرجية في لبنان وعلى طريقة الكسارات وكذلك تلوث الأنهار، وحتى البحر؟
[ اليقظة البيئية
فكل هذه الكوارث البيئية التي لم يأبه بها المسؤولون على امتداد سنوات موجودة ومتفاقمة. لكن لذلك مسببات سياسية. ينتزع «المطلبي» كلياً من السياسي وكأنه تمويه من المسؤولين كمثل اعتبار كل الطبقة مسؤولة هو تغطية للتحديدات المعنية. صحيح أن الحكومة شبه معطلة، وكذلك مجلس النواب ورئاسة الجمهورية… لكن على المتظاهرين وسواهم أن يبحثوا في العمق عن مرتكبي التعطيل أنفسهم. فإذا كانت المسؤولية لا تطاولهم وحدهم نسبياً، فهذا لا يعني مساواة الجميع بالجميع. وإذا كانت المطالبة الساذجة بإسقاط النظام فعلى كل من يرفع شعار «الإسقاط» أن يحاول معرفة من يعطل ويسفه ويؤبلس النظام ولماذا يعمد إلى ذلك: أمن أجل نظام توليتاري (مذهبي أو أيديولوجي) شبيه بأنظمة الطغيان العربية التي خلعها الربيع العربي، أم شبيه بنظام ولاية الفقيه الاستبدادي، قامع الحريات وخانق كل تعبير احتجاجي أو اختلاف وتخوين أو تكفير كل معارضة! فلا يمكن عند طرح هذا الشعار عزله عن أسبابه ودلالاته وظروفه؟ فهذا المطلب أكبر من الذين يتظاهرون إلا إذا تناولوه بعيون فاحصة، تحليلية، أو استنتاجاً لمفاعيله الخطرة وقدراته وبدائله المتوفرة.
[ أولويات ملتبسة
وقد علمنا من أجواء بعض الفاعلين في التحركات انهم يرفضون الخوض في هذه الأمور الجوهرية. وقلّما سمعنا كلمة «الدولة» في أفواههم أو في أصواتهم. فالدولة العميقة نفسها مهددة وكذلك الجيش وقوى الأمن والأمن العام والمؤسسات الأخرى. وهنا صلب المشكلة، فالذين يعطلون انتخاب الرئيس بعضهم يطالب بإسقاط النظام، بعدما «اسقط» معظمه بالسلاح والميليشيات والغزوات والقمصان السود. وأي تدمير للدولة النظام حالياً يشكل خدمة لحَمَلة السلاح وعلى رأسهم «حزب الله« لأنه الوحيد القادر على «وراثة» كل شيء وتهشيم كيان لبنان وحدوده (المهمشة) وجمهوريته وبعض الظواهر الديموقراطية ومنها حق التظاهر وتحرير الشارع واعلان المعارضة والاحتجاج. كأنما ينطبق قول «مرتا مرتا تنشغلين بأمور عديدة والمطلوب واحد!» فالمتظاهرون وخصوصاً «العنفية» منشغلة بأمور كثيرة والمطلوب واحد: استعادة الدولة من براثن الدويلة، توحيد البلد من كانتونه المذهبي (التقسيمي) وانتخاب رئيس للجمهورية: لبنان هو البلد الوحيد في العالم كله الذي ليس عنده رئيس للجمهورية. هذه الفضيحة كيف تمر؟ بل كيف تترك حتى للحوار تجاوزاً للدستور والميثاق وسلطة البرلمان؟ ومصائر الحكومات ومنها الحكومة الحالية التي عبث «حزب الله« وفلول النظام السوري بكل أجنداتها وفاعلياتها بسياسة تعطيلية، منهجية، من استراتيجياتها، اخلاء البلاد من كل مرجعية شرعية تمهيداَ للانقضاض عليها! لكن حتى في هذه الناحية، من الصعب تبرئة بعض 14 آذار إما لاتباعها سياسة «النعامة» أو «الانتظار» أو «خطاب الاعتذار» أو حتى الحوارات التي شهدنا فصولها على امتداد السنوات الماضية. «فأم الصبي» لا يعني الخنوع للأم الفاجرة، غير الشرعية، بل إنقاذ الصبي من أنيابها. لكن لهذه المسؤولية، ربما أسبابها، نظراً للظروف الإقليمية والداخلية، لكن حزب «الأم الفاجرة» يلعب على كل المستويات، أبلسة ما تبقى من القوى الشرعية، المُشَاركة في قتل الشعب السوري، والقيام بتأليف خلايا إرهابية في بعض البلدان العربية المناهضة لإيران، كالكويت، والبحرين… وصولاً إلى أوروبا (لا إلى إسرائيل! طبعاً). وها هو هذا الحزب، وتمويهاً لهزيمته في سوريا، وفي العراق، وفي اليمن، وانكشاف مؤامراته في بعض دول الخليج، يحاول، باطنياً وسراً ومن خلف الكواليس ذر الغبار في العيون، لتحويل الأنظار عن ارتكاباته وهزائمه في سوريا العربية التي يعمل مع الإيرانيين، على تغيير هويتها الديموغرافية، والسياسية والطائفية والعروبية!
[ غربان الوصايتين
وعندما نلمح بعض ديناصورات النظام السوري في التظاهرات كأنما لمحنا غربان الدكتاتورية وأشباحها. فحزب الله يحارب في سوريا بدم اللبنانيين لإنقاذ نظام الأسد، وهنا في لبنان، يعطل انتخاب رئيس للجمهورية. هناك، يسعى الحزب إلى تغطية جرائم النظام (ويبدو أنه شارك في معظمها)، وحكومته، وهنا يؤبلس «قوى الأمن الداخلي»، وحتى الجيش، والقضاء.
فحزب مهمته الأساسية تخريب المعادلات، ودك المؤسسات من جذورها في لبنان، وقطع رأس الجمهورية، وفي المقابل يدافع عن بقايا نظام، وبقايا رئيس دولة، وبقايا حكم، لا يمكن إلا أن يوضع في خانة الانعزال عن مكوّنات بلاده، وتاريخها، وجغرافيتها، وإرثها، وماضيها ومستقبلها.
وهنا السؤال الكبير: لماذا يلتقي بعض المتظاهرين مع أهداف «حزب الله« والنظام السوري؟ يرفعون شعار إسقاط النظام، ليخدموا «نظام الحزب«؛ يؤبلسون قوى الأمن (مع إدانتنا الشديدة لاستعمالها العنف ضد بعض النشطاء)، والدولة، ومجلس النواب… والحكومة نفسها؛ أوليس هذا ما يفعله الحزب وفلول النظام البعثي (وراءهما إيران)؟ أنساعد هؤلاء على أهدافهم «النهائية» لقرصنة لبنان كله؟ ولعلّ وقائع اقتحام وزارة البيئة دليل دامغ على ذلك! قال أحد المقتحمين، نحن اقتحمنا «سلمياً» (احتلال وزارة تحرك سلمي!)، الوزارة، وهددنا الوزير، والموظفين، فكبلونا إذا أخرجتمونا، كبلونا، لنخرج مقيدين أمام الكاميرات، أكثر: اضربونا لنخرج مدمّين أمام وسائل الإعلام«. هذا أمرٌ غامض قد يدل على كوامن هؤلاء: تشكيل ذريعة لتصوير أن قوى الأمن قمعتهم، وضربتهم، وربما مارست أساليب التعذيب (ولا أساليب الأسد وسجنائه ولا أساليب ولاية الفقيه في معتقلاته). إذاً، يريدون «أبلسة» قوى الأمن منذ أول تظاهرة: تحديها واستفزازها ورشقها بالزجاجات الحارقة والقناني، لترد عليهم هذه القوى بالعنف، وعندها تلعلع بعض وسائط الإعلام المعروفة، بالصياح ها هي قوى الأمن تمارس القمع الوحشي المفرط، والشديد… وقد يخترعون «جرحى»، ودماء، لأنهم يسعون إلى الدم… وهذا بالذات سيكون مقتل هذه التظاهرات، يرافق كل ذلك، تغييب انتخاب رئيس الجمهورية، والإمعان في اتهام الحكومة عبر وزارة البيئة، ليكتمل نصاب التعطيل، من جهة الميليشيات المذهبية، ومن جهة المتظاهرين، وبعض الإعلام المرتزق. وعندها، يكون للفتنة طريق، وخارطة إلى الفوضى، الشاملة أو على الأقل إلى تزكية ما يدأب أهل التعطيل عليه.
[ الاستئثارية!
على هذا الأساس، ولأن هناك «تعددية» ما في المشاركة في هذه التظاهرة، فإن سلوك بعضهم «الاستئثاري»، والذي يرفض حتى التنسيق مع الأطراف الأخرى المشاركة، سيذكرنا، بما تفعل «طبقة» التعطيل والتخوين، والتكفير في لبنان. كما «في السماء كما على الأرض»! وسيفهم المشاركون السلميون الذين نزلوا إلى الشارع أصلاً، إدانة لفضيحة النفايات، أن بات عليهم الانفصال عن هذه الفئة المستأثرة، التي تريد لنفسها قيادة أحادية على حساب الآخرين. وهنا بالذات، قد تظهر «المخططات» بضرب استقرار لبنان، والعبث بأمنه، واستجرار الحالة السورية إليه. فإذا كان لبعض هؤلاء أن ينفوا كل شرعية (كما يفعل «حزب الله«) عن المؤسسات الأمنية والسياسية والاجتماعية، فيعني ذلك ملامسة اندلاع حرب أهلية: إسقاط النظام حالياً= حرب أهلية. إسقاط الدولة= حرب أهلية. تفكيك المؤسسات العسكرية والأمنية= حرب أهلية. التواطؤ على تعطيل انتخابات رئيس قد يعني على المديين القصير والبعيد حرباً أهلية! فهل يمكن أن نفهم أن تحركاً بيئياً كالذي نشهده اليوم، يمكن أن يضم من يضمرون هذه الحروب الانقلابية التخريبية؛ وهنا نكرر ما عبرنا عنه مراراً (وتاريخنا يشهد على ذلك) أن أهم ما حققته 14 آذار هو تحرير الشارع ليكون مكاناً آمناً للاحتجاج، وأن كل تظاهرة نقابية (كهيئة التنسيق التي حافظت حتى النهاية على سلميتها)، أو مطلبية، أو كل مطالبة بحق، نرحب بها، ونشارك فيها، وندعمها! أما تظاهرات التدمير، المبرمجة، والتي تريد تعطيل ديموقراطية الشارع، لإعادته على ما كان عليه في عهد الوصاية السورية، محرماً وممنوعاً، فنحن لا يمكن أن نمالئها، وأن نشجعها، وأن نتواطأ معها (7 أيار بدأت بتظاهرة للاتحاد العمالي العام، كصفارة لابتداء هذه الغزوة السورية الإيرانية لبيروت)، وتحرير لبنان من الوصاية السورية بدأ بتظاهرة مليونية، وشتان ما بين التظاهرتين!
وأخيراً نظن أن بعض الأطراف السلمية والديموقراطية سترد على تلطيخ التحرك بالعنف، باختيارات أخرى، كأن تستقل في تظاهرات أخرى، ترفع شعاراً واحداً متعدداً: الأولوية لانتخاب رئيس للجمهورية، تحسين الأوضاع البيئية والمعيشية، بحيث لا ينفي الشعار الأول المطالب الأخرى. لأن هذه الأولوية… تبدأ من حيث يجب أن تبدأ من فوق… لا من تحت، ومن إرادة المتظاهرين لا من إرادة التعطيليين!
نعم! شعار واحد جدي ينقذ البلد من الفراغ ومن النفايات ومن الفاسدين، واللصوص والعملاء: انتخاب رئيس للجمهورية بحسب ما ينص عليه الدستور، من دون صفقات حوارية، أو تنازلات…