IMLebanon

عن السلاح في روسيا وسويسرا وأميركا ولبنان

 

حدث هذا في العاصمة اليمنية، عندما كنت متوجهاً إلى مطعم لبناني دعاني إليه حينذاك سفير الكويت في صنعاء طلعت الغصين. وكان طلعت، الذي خدم سابقاً في واشنطن، من أكثر الديبلوماسيين ظرفاً وحيوية. لذلك، اعتبرت وجوده في اليمن من المفاجآت السارة في بلد بطيء الإيقاع، ما زال أهله يعيشون على مضغ «القات»، وإحياء تاريخ توقف عن «سدّ مأرب».

في الطريق، رأيت شاباً يمنياً يجرّ عربة خشباً مملوءة بثمار التفاح، وقد أشار إلى ميزتها بوضع قطعة من الكرتون كتب عليها «تفاح لبناني». واستوقفني هذا الإعلان التسويقي المغري في وقت كان لبنان يغرق في حرب ضارية مطلع الثمانينات. لذلك، اشتريت كلغ تفاحاً، وانتظرت مع السفير أن يضعها البائع في كيس قبل أن نواصل سيرنا باتجاه المطعم. وفجأة، سمعت البائع يسألني عما إذا كنت لبنانياً كي يعرض عليّ «شيئاً آخر» أهم من التفاح! وقبل أن أجيبه، رفع عن الجزء الأسفل من العربة قطعة من القماش كان يستخدمها لإخفاء منظر عشر بنادق رشاشة من طراز «كلاشنيكوف».

ثم أخرج رشاشاً عرضه عليّ وهو يقول: «هذه بضاعة رائجة في حرب لبنان. أنا على استعداد لأن أخفض لك سعرها، مع أنها جديدة لم تستعمل بعد، شرط أن تدفع لي بالدولار!».

ولما اعتذرت لعدم قبول عرضه، أخبرني السفير الغصين أن هذه البنادق هي ملك لتجار أسلحة يدفعون عمولة رمزية للبائعين المتجولين. ثم اختصر حديثه بالقول أن بيع البنادق في هذه البلاد أسهل من بيع التفاح، وأكثر ربحاً. لذلك، تتفاوت التقديرات لمقتني الأسلحة الخفيفة في اليمن بين العشرين مليون رشاش وبندقية وبين الثلاثين مليوناً.

تذكرت هذه الحادثة وأنا أتصفح «ألبوم» صور القطع الحربية التي اخترعها ميخائيل كلاشنيكوف، والذي أهدى الصديق روبير جريديني نسخة منه أثناء معرض السلاح في دبي عام 1997.

ولد ميخائيل كيموفيفيتش كلاشنيكوف في مزرعة صغيرة غرب سيبيريا تدعى «كيريا»، وذلك في العاشر من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1919. وكان الابن السابع عشر لوالد مزارع اسمه تيموفيه ووالدة تدعى ألكسندرا.

بعد أن أنهى ميخائيل دروسه الثانوية، اضطرته الحاجة إلى العمل في سن مبكرة موظفاً تقنياً في دائرة تابعة لخطوط سكة حديد. لكنه التحق بمدرسة ليلية مختصّة بالعلوم الميكانيكية، قبل أن ينضم إلى الجيش حيث تدرب على قيادة الدبابة. وفي عام 1941، خاض معركة في «برنسك» ضد القوات الألمانية حيث جرِح في كتفه، الأمر الذي اضطره إلى الخضوع لنقاهة طويلة.

ولقد اعترف لأحد كتّاب سيرته البريطاني ميشال هودجز أن الجيش الألماني كان يملك أسلحة متطورة، مقابل أسلحة روسية غير حديثة. ورأى في ذلك التفاوت حافزاً خفياً شجعه على اختراع بندقية سريعة الطلقات، خفيفة الحمل، سهلة الاستعمال.

ومع أن الجيش السوفياتي قرر تصنيعها عام 1942، إلا أنها لم توضع في الخدمة إلا في 1944. والسبب، كما يعترف ميخائيل في كتاب «حكاية البندقية الشعبية – أيه كاي 47»، أن أحد رفاقه في فرقة الدبابات استطاع الحصول على بندقية أسير ألماني من طراز «إم بي شميزر» وهي بندقية تتميز بسرعة الطلقات وإصابة الهدف من مسافة بعيدة.

في المستشفى، أجرى كلاشنيكوف بعض التعديلات على اختراعه السابق، معتمداً في بعض الأمور التقنية على تقليد البندقية الألمانية. هكذا، صدر النموذج الجديد بإضافات بينها: زيادة حجم مخزن الذخيرة بحيث يتسع لأكثر من ثلاثين رصاصة. كذلك طوّر الماسورة بطريقة تسهل انطلاق الرصاص المصنوع وفق معيار قياسي، إضافة إلى كل هذه الميزات، فإن رشاش كلاشنيكوف أصبح السلاح الوحيد المقاوم الصدأ… الرخيص الثمن. وقد كتب عنه جيرمي كلاركسون، خبير السيارات البريطاني، أنه أرخص من سعر مسدس للأطفال يباع في محال الألعاب الشهيرة في لندن «هامليز»!

في عهد ستالين، تمت الموافقة على ضرورة استخدام بندقية كلاشنيكوف كسلاح دائم للجيش الأحمر. وانسحب هذا القرار على جميع قوات دول حلف وارسو، إضافة إلى جيش الصين الشعبية.

وفي مرحلة الحرب الباردة، أي عندما تولت موسكو وبكين عمليات تحريض الشعوب ضد المستعمر في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية… خلال تلك المرحلة تحولت هذه البندقية إلى رمز للكفاح ضد الاستعمار. لذلك، استخدِمَت في أفغانستان بعدما انقلب أسامة بن لادن على صانعيه الأميركيين. ومن أجل تشجيع عناصر «القاعدة» على الاقتداء به، كان بن لادن يتعمد الظهور على شاشات التلفزيون، وقد تدلت الكلاشنيكوف من عنقه. وفي لقاء تم في إحدى مغاور تورا بورا، مع صحافي باكستاني، اعترف بن لادن بأهمية هذه البندقية بالنسبة إليه. وقال أنها قطعة السلاح الوحيدة التي لا يفارقها في النهار أو في الليل. واعترف بأنه سيستعملها للانتحار في حال نجح الأميركيون في تطويقه. لكن القنابل التي رماها المغاوير الأميركيون على منزله في باكستان لم تسمح له بفرصة الانتحار.

وتقديراً لهذا الاختراع الفريد، كانت البزة العسكرية التي يرتديها الرقيب أول ميخائيل كلاشنيكوف في المناسبات الرسمية مليئة بالنياشين وأوسمة التقدير مثل وسام ستالين (1949) ووسام لينين الذي حصل عليه عام 1964… ووسام الحزب الشيوعي (1958) ووسام سانت – فلاديمير الذي منحه إياه الرئيس بوريس يلتسن.

ومع أن الأميركيين لم يعترفوا بأهمية هذه البندقية، إلا أن صحفهم لم تتردد في مقارنة دورها في القتال بدور مسدس (الكولت – 45) الذي اشتهر باستعماله الممثلان جون واين وكلينت إيستوود في أفلام (الكاو – بوي).

إلى جانب كل هذه الشهرة التي حققتها البندقية لمخترعها، بقي الرقيب أول كلاشنيكوف مصراً على الاكتفاء بمعاشه الشهري المتواضع، رافضاً الحصول على عمولة من وراء عمل أغنى خزينة الدولة بالعملة الصعبة. ويكفي أن نذكر أن روسيا باعت من هذه البندقية لغاية عام 1974 مئة مليون قطعة. وهو رقم مهم بالنسبة إلى بلاد تعرضت للنهب والفوضى.

في آخر أيام حياته، تضايق ميخائيل كلاشنيكوف من وصف له في جريدة أميركية، كتبت عنه تقول أنه «بائع الموت». وعلق في دفاعه عن هذه التهمة بالقول: أنه كان يفكر في مستقبل وطنه روسيا قبل أي شيء آخر، تماماً مثلما فعل علماء الولايات المتحدة الذين أنتجوا القنبلة الذرية. ثم زاد: لو كان الأمر يتعلق بي فقط، لكنت فضلت أن اشتغل بستانياً يعتني بالأشجار والأزهار… لا بالحديد والنار!

توفي ميخائيل كلاشنيكوف يوم 26 كانون الأول (ديسمبر) من عام 2013 عن عمر ناهز الـ94 سنة. وحضر التشييع الرسمي والشعبي الرئيس فلاديمير بوتين ووزير الدفاع وكبار المسؤولين الذين مروا قربه في النعش المسجّى بقاعة المقبرة التي أمر بوتين بإنشائها كي تضم «رفاة أبناء روسيا الأبرار ورجال الدولة الكبار».

وأبرق حينذاك رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط إلى وزير الخارجية سيرغي لافروف، معزياً بوفاة ميخائيل كلاشنيكوف الذي طوّر – في رأيه – قطعة سلاح لعبت دوراً محورياً لدى حركات التحرر حول العالم، وساعدت الشعوب في مواجهة التسلط في أكثر من ثمانين دولة.

واستغل جنبلاط وفاة المخترع الروسي ليهاجم العصابات التي تسعى إلى امتلاك السلاح المتفلت من كل رقابة دولية، داعياً إلى الاقتداء بأسطورة صانع السلاح، الذي رفض استغلال عمله الوطني من أجل مصالح خاصة.

تكريماً لهذه الشخصية الأسطورية، قرر بوتين إحياء ذكراها بإقامة تمثال من البرونز يحمل بندقية كلاشنيكوف. ورحبت الأوساط الروسية بهذا التكريم، مفاخرة بأن المواطن الروسي الذي يملك بندقية من هذه النوع لم يحدث أن استعملها للقتل مثلما يفعل المواطن الأميركي. وكانت بهذا التلميح تشير إلى سلسلة الاعتداءات التي اختتمها ستيفن بادوك بافتعال مجزرة في مدينة لاس فيغاس.

وانضمت سويسرا إلى موقف روسيا، مؤكدة أن اقتناء السلاح ليس هو المشكلة، بقدر ما تكمن المشكلة في الانتظام بمناقبية حمل السلاح. ذلك أن الدولة الفيديرالية، في الكانتونات المختلفة، تسمح لكل مواطن بامتلاك بندقية. لكنه لم يحدث في تاريخ سويسرا أن استعملت هذه البندقية من أجل الانتقام أو القتل.

بقي أن نذكر أن لبنان لا يختلف كثيراً عن الولايات من حيث كثرة السلاح المتفلت من أي رقابة، أو من أي رادع قانوني. وتشير الأرقام إلى أن قوى الأمن سجلت خلال الأشهر الأخيرة وقوع مئة جريمة. والمؤسف أن أسبابها تعود إلى السباق على أفضلية مرور السيارة!