الاثنين المقبل، 16 ايار، تمر مئة عام على اتفاقات سايكس – بيكو 1916. فيما كان العالم منفجراً في ذروة الحرب العالمية الأولى، انصرف المحامي الفرنسي فرنسوا جورج بيكو، من “الحزب الكولونيالي”، والعقيد مارك سايكس، إلى تقاسم ميراث الامبراطورية العثمانية المنفرطة بعد نحو أربعة قرون من استعمار الشرق. ولكن ارضاء لمواطني المنطقة، سوف يسمّى الاستعمار الجديد انتداباً، أي تكليفاً موقتاً.
هاجس فرنسا كان “فرنسا المشرق”، وهاجس بريطانيا كان الهند. كل ما يقع على طريقها كان شرياناً حيوياً لها: العراق والخليج وعدن. وكانت تحاول استرضاء مسلمي الشرق لئلا يهب في وجهها مسلمو الهند. ولم يكن النفط قد ولد بعد، فكانت الهند هي “درة التاج”.
كانت اتفاقات سايكس – بيكو، وظلت مئة عام، أول حائط مبكى عربي. ولكن بعد عام واحد أقيم الحائط الآخر، وسمي وعد بلفور، وهو امتداد للحائط الأول، أو إنتاجه. ومنذ ذلك الوقت، تكسّرت النصال على النصال. ففيما انتهت الحرب العالمية الثانية في كل مكان، بدأت حروب العرب وخيباتهم ونكساتهم. وتعددت الحيطان. وكانت 1956 آخر حرب خاضتها فرنسا وبريطانيا مباشرة في المنطقة ومعهما اسرائيل. وخرجت الدولتان الاستعماريتان القديمتان لتدخل المنطقة في دائرة الصراع الاميركي – السوفياتي. لكن جوهر سايكس – بيكو ظل قائماً، بعدما أضيف إلى وعد بلفور بالوطن القومي اليهودي، توسع اسرائيل نحو القدس الشرقية والضفة الغربية، إضافة إلى سيناء والجولان.
كان العداء لخريطة سايكس – بيكو الأولى، هو النداء الذي اطلق من أجل تغيير الواقع الانهزامي الذي تركه الاستعمار. هكذا انطلقت الانظمة العسكرية، بدءاً من سوريا، بدافع السعي إلى استعادة فلسطين من ناحية، ولواء الاسكندرون السليب من ناحية أخرى. ونشأت في الموازاة حركات قومية في اليسار وفي اليمين، وبعثت الجماعات الشعبية في كل مكان.
وإلى جانب الحروب الخاسرة على الجبهات، نخرت الأمة الحروب الأهلية المدمرة وحروب الجوار. واقتضت مشاركة 700 الف جندي من 33 دولة لإخراج العراق من الكويت، ومنعه من المضي لاحتلال الامارات وجزء من السعودية. وشارك العالم العربي، برمته تقريباً، في حرب لبنان التي انتهت بتسليم السلطة إلى سوريا. لكن “الخريطة” نفسها بقيت على ما هي في كل مكان، عدا الاحتلال الاسرائيلي.
بدأ تغير سايكس – بيكو من الداخل، وليس عبر الحدود. بدل أن يضم العراق الكويت، ويحوّلها إلى المحافظة التاسعة عشرة، أخذ يفقد روابط العاصمة المركزية بالمحافظات التاريخية: كردستان والبصرة والموصل. ثم جاء الخليفة البغدادي، فقرر أن يبدأ دولة الخلافة من سوريا والعراق معاً. وللمرة الأولى منذ قرن كامل، يلحق مثل هذا الدمار البشري والمادي والمعنوي، بعاصمتي الخلافتين، الأموية والعباسية.
وفي هذه التراجيديا القومية الكبرى، صمد “الكيانان المصطنعان” في تقاسيم سايكس – بيكو: لبنان والاردن. العراقيون يلجأون إلى عمّان منذ حرب الكويت بمئات الألوف، والسوريون ينزحون إلى لبنان بلا توقف منذ خمس سنوات، بعدما كان خط الهرب معاكساً تماماً لسنوات طويلة. وما بين هؤلاء واولئك، يتوزع ضحايا آرثر بلفور في طريقة محزنة على البلدين.
يقول المؤرخ البريطاني الشيوعي اريك هوبزباوم، إنه لا يمكن فهم القرن العشرين، من غير أن نفهم أوهامه. يقصد طبعاً الأحلام التي راودت الشعوب. ويعني كذلك الخيبات التي اصابتها. ربما من طبيعة الحياة وطبائع البشر أن ينتمي إلى اليسار ارنستو غيفارا ولافرنتي بيريا، وأن ينتمي إلى اليمين شارل ديغول وفيليب بيتان. لكن الشعب العربي الذي لم يحلم بأكثر من بديهيات الحقوق، حُرم اولاً واخيراً حق الاقتراع، وتالياً، اختيار الرجال القادرين على اقامة الدولة العربية. فما ينفع الاستقلال عن الخارج إذا كان الداخل مستعبداً. هل يمكن الجائع والخائف أن يفكر في المستقبل؟ محمد حسنين هيكل، وإحسان عبد القدوس، ومصطفى أمين، ومحمود امين العالم، وصلاح عيسى، ومحمود السعدني، والعشرات من كتّاب مصر، دخلوا السجن، غالباً أكثر من مرة، وغالباً في ظل أكثر من رئيس. وفي العراق وسوريا، ألغيت الصحافة برمّتها. ولم تعرف المنطقة في النصف الأخير من القرن الماضي سوى نظام الرجل الواحد، والحزب الواحد، والفكر الواحد، فيما كانت الدول المستَعمِرة، تقوم من ركام الحروب ودمارها وأهوالها، وتتحول إلى اقتصادات مزدهرة ومجتمعات متطورة. هل يعقل أن مجتمعاتنا أدت إلى نشوء داعش؟ وهل يعقل أن هذه الظاهرة لم تولد إلا عندنا؟
العام 2008 نبشت جثة مارك سايكس في باريس من أجل بحث طبي حول الحمّى الاسبانية التي مات بها وهو في الاربعين. أما المسيو جورج بيكو، الذي كان قنصلاً في لبنان ومفوضاً سامياً في سوريا وفلسطين، فإنه، بعد انهاء مهمته، عُيّن سفيراً في الارجنتين، على آخر حدود الأرض.
وطرد الحكم الوطني الحكم الاستعماري، لكنه أخفق في إقامة الدولة الوطنية. والحلم الذي لا سعة فيه ولا مكان للآخر، يتحول إلى وهم كبير وجدران مبكى ودماء على الطرقات. كان الاتراك يعدمون الصحافيين بعد محاكمة مزورة فيها كل شيء إلا القانون والعدالة. أما شهداء الصحافة في الدولة الوطنية فقُتلوا بالرصاص والتفجيرات من غير أن يجرؤ أحد على إصدار قرار ظني. ومع هذا، فهناك زعماء سياسيون لا يزالون “ينتظرون نتائج التحقيق”. قبل أن يستنكروا اغتيال جبران تويني وسمير قصير. أليس الاغتيال اكثر رحمة من هذه البرقية الجليدية التي بدل التعزية بالقتيل تطلب الحصانة للقتلة؟
ليس فقط الدولة الوطنية لم تقم، بل المعارضة الوطنية ايضاً. فهي حاربت الانقلاب بالانقلاب، والتسلط بشهوة التسلط، والظلم القائم بالظلم الموعود، والسجن القبيح بالسجن الأكثر قباحة. وحاربت الانظمة الكالحة المثقفين والنخب والحريات والعقول والفكر والشِعر، وتوعدت المعارضة الأكثر دماسة الجميع بمصير اسوأ. ما هذه المصادفة التي جعلت جميع شعراء العرب في المنفى؟ احمد شوقي، وبيرم التونسي، والجواهري، والسياب، وادونيس، ونزار قباني، والبياتي، والماغوط، وفي المقابل لم تنف اسرائيل سوى محمود درويش. وأما قمعيّو اميركا اللاتينية فأرسلوا ادباءهم سفراء حول الأرض يغرّدون للإنسانية على ايقاعات نيرودا وكارلوس فوينتس وفكر اوكتافيو باث.
ليس فقط الدولة والمعارضة، بل المجتمع اللائق ايضاً. المجتمع الطبيعي الذي يعرف طريقه من غير أن يُساق. ويتقدم تخلف الدولة والمعارضة بدل أن يختار الانسحاق بينهما. من المعيب التذكر، أو التذكير، بأن سايكس – بيكو تركت لنا هيكل دول طبيعية فيها دستور وقانون وقضاء، وجامعات، وطرقات، وقواعد وثقافات عقلية، غير قبلية. ومن العار التذكير بأن الاستعمار أصر على معاملة الأقليات كبشر وحقوق وحماية. إذ تتفتت “دولة” سايكس – بيكو اليوم، تأخذ كل اقلية أرضها معها، من اجل أن تصبح اسرائيل، ذات يوم، مسورة بمجموعة من الاجرام الهزيلة القائمة على الاحقاد والمكاره والعداوات والانتقامات الهمجية.
لو قامت الدولة العربية العادلة والسوية، لما كنا الآن في عصر داعش. لربما كنا مثل المانيا وفرنسا، ومثل اليابان وأميركا، ومثل المانيا الشرقية والمانيا الغربية، ومثل بريطانيا وايرلندا، ومثل بولونيا وروسيا، ومثل الأمم التي وضعت التخلف خلفها واختارت العقل والعلم الحياة. نحن نمضي في اختيار الظلام والسبي والقتل والموت والدمار، ولا نطلب فك الاصفاد إلا كيّ نصفق للركام، ونوسع المقابر الجماعية، ونحوّل مدن التاريخ إلى مدافن لا وقت لديها لتودع مواكب القادمين.
كان فرنسوا جورج بيكو عضواً في “الحزب الكولونيالي”. هكذا بكل بساطة. ومارك سايكس كان موظفاً في وزارة الخارجية والمستعمرات. وكان كلاهما اكثر تبصّراً بكثير من دعاة الوطنيات. إليكم ماذا حدث بعد مئة عام على وجه الضبط…