مما لا شك فيه، أن لغة الحوار منذ أن دخلت إلى أجواء الأزمة اللبنانية، قد أدت إلى ما شهدناه على مدى الأشهر القليلة الماضية، من أحوال الهدوء والركون والعودة إلى بعض من التصرفات التي جاءت نتيجة لإيحاءات عاقلة وعقلانية، بعضها جاءت على ألسنة بقايا المتأثرين والمبشرين بمنطق ونهج النبي أيوب عليه السلام، ومن كثرة ما سعى الساعون إلى حلول مؤدية إلى أي نوع من أنواع الإنقاذ والخلاص، ومن وكثرة ما جوبهت بآذان مقفلة أمام كل المبادرات والصيحات والإستغاثات، يبدو أنها عادت إلى وضع المعاناة المستقرة والمستمرة والمناداة بأعلى ما يمكن للصوت أن «يودي»: يا صبر أيوب.
تلاقت الجهود الخارجية والإقليمية على تجنيب لبنان جملة من الكوارث الصغيرة والكبيرة التي استمرت على أسلوبها المهديء والمليّن، وقبل اللبنانيون بهذه العروض المبشرة بنتائج عزيزة على قلوبهم وعلى أمنهم وحياة أبنائهم واستمرار التنفس في أجواء سياسية وأمنية على حد أدنى من الصفاء والنقاء، واستمرت أحوالهم المهللة والمتقبلة لهذه الأجواء الحوارية التي افتقرت حياتهم إليها واشتد عزمهم على التشبث بنهجها وببعض نتائجها على الأرض، ولكن الأحوال الحوارية التي سادت على مدى أسابيع عدة لم تتجاوز حتى الآن أشهرا عدة، عادت إلى الإهتزاز والإضطراب، وإن اقتصرت هذه العودة على الإطار الإعلامي والخطابي والمواقف المؤججة والمتشنجة، ولئن عاد المستقبل وحزب الله إلى التلاقي بالأمس مجددا على طاولة الحوار، فإن الجميع باتوا يضعون في الحسبان والتوقع، إمكانية العودة الحوارية الى وضعية الإهتزاز المتجدد.
لقد خيل للبعض أن القبول بوضعية تبريد الأجواء والتلطيف والتخفيف، يعني أن يقتصر الوضع اللبناني على التمتع بنتائجه المهدئة، وكفى الله المؤمنين شر النزال والقتال، ويبدو أن الحوار القائم، سواء على مستوى الوضع الإسلامي أو على مستوى الوضع المسيحي، كان يعني بالنسبة للبعض أن التطرق إلى المواضيع الرئيسية التي ما زالت تهز الأوضاع اللبنانية وتفاقم في مخاطرها، يقتضي أن تبقى وتستمر خارج إطار التطرق إليها بأية وسيلة وأي مستوى، وكأنما الشعار الحقيقي الذي يحرك هؤلاء والذي يطلق على الدولة ومؤسساتها وعلى شعبها الراغب في الإستقرار والإنتهاء من لغة الحرب وإزكاء موجات الفتن والمشاكسات والخلافات والضغائن: خذوا الحوار ولننطلق وإياكم في مسيرته، وكفاكم ما يعود إليكم من خلاله من أوضاع الرواق والهدوء والإستكانة. خذوه… حبة أسبرو تهدئ الخواطر والأعصاب،أما الوطن، الذي تزداد حاجاته لاستعمال العكازات يوما بعد يوم، وأما الدولة التي يستغرب العالم كيف أنها ما زالت منذ قرابة العام تعيش جسدا هشا مقطوع الرأس، محروما من رئيس يقود ويسود، وأنها ما زالت منذ فترة مماثلة تقريبا تعيش جسدا هشا، غريب الشكل عجيب الخصائص والصفات، تمارس الحكم وتسيير شؤون الناس من خلال أربع وعشرين رأس وأربع وعشرين رأي، وتصرّف ومناكف ومناطح ومباطح.
أما الوطن… فالبعض يرضخ ويستكين، بل ويؤيد في بعض أطرافه، أن يصبح جزءا من الأمبراطورية الإيرانية التي تطرح بأقصى العلن والوقاحة أنها أصبحت أمرا واقعا عاصمته بغداد، ويمتد إلى الجزء اللبناني من شواطيء البحر الأبيض المتوسط. فدولتهم دولة قيد التصفية، مؤسساتها تعمل لدولتها الخاصة وإدارتها وجماعتها هي وليس للوطن الذي خلقنا فيه وسبقنا على ارضه أجدادنا وآباؤنا، وكل ما نملك من تراث وعراقة وحضارة، وأما حياة أهلها ومصير مواطنيها، فيمسك من بيدهم الزمام الحقيقي للأمور بقرار السلم والحرب فيها، وهم يتخذون هذا القرار وينفذونه داخل البلاد وخارجها، شاء الآخرون من أبناء الوطن الواحد والأرض والدولة الواحدة أم أبوا. يحاربون في سوريا والعراق وأي رقعة شاؤوا في هذا العالم، فهذا حقهم وهذا جزء لا يتجزأ من إرادتهم العليا، يهددون أمن البلدان المجاورة حتى ولو كانت قد سبق أن شرعت أبوابها أمام اللبنانيين جميعا دونما تفريق، مفسحة لهم خيراتها ووسائل العيش الكريم المتوفرة لديها، وها نحن نشهد تحركات تحوم عليها علامات الإستعلام والإستفهام، في دولة الإمارات، كان من نتائجها أن تكبد لبنان موجتين من إبعاد مواطنين لبنانيين عن أراضيها، والموجة الأخيرة أقصت عنها مجموعات ما لبثت سلطاتها السياسية والأمنية أن أوضحت أن إقصاءها لهم جاء لأسباب تمس أمن الدولة واستقرارها وقد حصلت في ظروف لمس المسؤولون اللبنانيون فيها تحركات أماراتية ذات معنى ومغزى استشموا منها رائحة التحسب والحذر والإستعداد للإقدام على تصرفات طارئة بحق من حددتهم المخابرات في تلك البلاد المعروفة باجراءاتها الأمنية الصارمة التي لا تتقبل أي خلل أو اضطراب في كل ما له علاقة بسلامة ورسوخ أسس الدولة ومؤسساتها، ضمانا لحالة الصعود العمراني والتقدم الإنمائي المذهل الذي حققته حالة السلم الأمني الكامل والشامل في تلك البلاد.
المعادلة الحقيقية التي يسعى الساعون إلى ترسيخها في هذه الأيام الباحثة عن المصير الذي سيسود المنطقة بعد الحراك الإيراني العدواني والتوسعي، هو أن كل فريق في هذا الوطن المنكوب يسعى إلى تحقيق مصالحه، وهذه المصالح تتمثل في إبقاء الأمر الواقع على حاله: سيطرة كاملة من قبل دويلة الأمر الواقع على الدولة بكل معالمها وسلطاتها وسلطانها، وعلى الإنفلاشة الحاصلة نحو الخارج بكل استهدافاتها وخفاياها وخباياها، في مقابل ما تم حتى الآن من إزالة للشعارات الفئوية من بعض المناطق اللبنانية وترتيب لبعض الأحوال الأمنية المؤدية إلى سيطرة مفروضة وفلتان مؤذ في مناطق أخرى ومساعدة على فرض الوصول برئاسة الجمهورية، «إلى بر الأمان» المتمثل بإيصال المرشح الواحد الأحد للسلطة، لا شريك له ولا بديل، وأي مرشح سواه، مرذول ومعزول ومرفوض.
ومع ذلك، مع كل هذه الصورة المأساوية القائمة، سيبقى الحوار مطلبا للجهات والفئات المتمسكة بهذا الوطن… حرا سيدا مستقلا، وإلى ترسيخ أسس التعادل والمساواة فيه وتكريسه بلدا ديمقراطيا لا مجال فيه لسيادة فئة على فئة، كائنا ما كانت، وتاريخ لبنان القديم والحديث، حافل بتقلبات الزمان والأحوال والقوى المتصارعة، وهذه السلطة الساحرة والمتمتعة بقوة جذب طاغية، لو دامت لفئة أو لجهة أو لشخص، لما آلت لاحقا لغيره من الطامحين والمنافسين والأخصام.