IMLebanon

حرب البصلة

في المنطقة التي جئت منها، منطقة عكّار في الشمال اللبنانيّ، تُروى قصّة لا تخلو من طرافة، لكنّها لا تخلو من معنى أيضاً. ذاك أنّه في أواخر الأربعينات أو أوائل الخمسينات، ظهرت بصلةٌ على الحدّ الفاصل بين منزلين. لم يُعرف بالضبط مَن الذي حفر الحفرة الصغيرة هناك، ومن الذي طمر الثمرة، وربّما سمّدها ورواها. ما عُرف أنّ صاحبي البيتين المحيطين بالبصلة تنازعا على ملكيّتها، وكلّ منهما ادّعى أنّه نفّذ تلك المهام من غير أن يراه الآخر. وعلى العموم، نجحت البصلة في استنفارهما وإيقاظ ما فيهما من غضب وكراهية، لم يردعهما عن ذلك مرور بضع سنوات على نيل الاستقلال الذي حفّت به أغاني الوحدة الوطنيّة والإيحاءات الكثيرة بأنّ الأرزة الشيء الوحيد الذي يطلع من الأرض ويستحقّ تنافس اللبنانيّين عليه.

هذه لي، قال أحد الجارين مشيراً إلى البصلة. بل هي لي أنا، قال الثاني.

والحال أنّ البصل كان دائماً زهيداً، لا يستحقّ أن يثير شجاراً بين اثنين يجمع بينهما الجوار اللصيق، فضلاً عن الانتماء إلى قرية واحدة وبلد واحد، وطبعاً إلى العروبة والإسلام. وفي عكّار، كما في مناطق أخرى من لبنان، كان يقال في وصف السلعة الرخيصة الثمن «إنّها بسعر بصلة». مع هذا فبصلتنا العكاريّة لم تُثر شجاراً فحسب، بل تأدّى عنها سفك دم وإزهاق أرواح.

فهي، وقد باتت رمزاً للكرامة، دفعت الخلاف إلى سويّة الإهانة، بحيث جاء كلّ من الجارين ببندقيّة قديمة مخبّأة داخل البيت، بعيداً من أنظار الدولة، وانتهت المجابهة بينهما على نحو فظيع. ففي وقت واحد، بل في لحظة واحدة، ضغط الرجلان إصبعيهما على الزناد، فأردى كلّ منهما الآخر.

ليس واضحاً ما الذي حدث بعد ذاك: هل أُشركت الجثّتان في جنازة واحدة؟ هل شهدت علاقات الأسرتين الجارتين مزيداً من التوتّر؟ ذاك أنّ شيئاً من الشعور بالفضيحة لفّ الحدث وعطّل الكلام في تداعياته. فلبنان يومذاك كان يباشر الدخول في عمليّة تحديث نجحت في التسلّل إلى المناطق والقرى البعيدة من بيروت. ومن عيوب الحداثة أنّها تجعل الكلام في أمور كهذه أقرب إلى عيب يستحي به صاحبه. فالقتل عيب، والقتل المزدوج عيبان، أمّا أكبر العيوب فأن ينجم هذا كلّه عن بصلة.

ومرّت سنوات طوت سنواتٍ وإذا بنجلي القتيلين شابّان، واحدهما كان يتخرّج محامياً في جامعة بيروت العربيّة، والثاني أستاذاً للتاريخ من الجامعة اللبنانيّة. وفضلاً عن إرخاء كلّ منهما شاربين كثّين، على جاري العادة في السبعينات، انتسب واحدهما إلى الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ فيما انتسب الثاني إلى حركة فتح. وفي موازاة التحالف بين تنظيميهما، ربطتهما صداقة ربّما لم يستسغها أقارب لهما آثر جرحهم القديم ألّا يندمل. لكنّ هذا لا يهمّ في النهاية، فالمسنّون كانوا يفقدون سطوتهم، أمّا الشبّان فولاؤهم للعقيدة والتنظيم يجبّ الولاء للعائلة وسائر الروابط الموصوفة بالرجعيّة. وكان ممّا قوّى صداقتهما صمتهما، هما أيضاً، على الفضيحة التي ارتكبها الوالدان وذهبا ضحيّتها.

بيد أنّ الصداقة الوثيقة التي تُمارَس يوميّاً، يعوزها الكلام، وهي غالباً ما تقود إلى مطارحات ومكاشفات ليس الأصدقاء منيعين دائماً حيالها.

هكذا، وفيما كانا، ذات مرّة، يتبادلان آراء متشابهة حول «التخلّف» و «عقليّة زمن الإقطاع» اللذين يريدان إزالتهما، مَدّتْهما تلك الذاكرة البيتيّة اللعينة بالحجّة التي لا تُدحض. قال أحدهما: «تأمّل في المأساة التي أدّت إلى يُتمنا وشقائنا لسنوات. أليست هذه أكثر ما يعبّر عن عقليّة التخلّف وزمن الإقطاع؟ هل يُعقل أن يتقاتل أبي وأبوك على بصلة وأن يُقتلا بسببها؟»

وما لبث رفيقه أن وافقه وأردف بما يفصح عن شيء من الحيرة: «عجيب فعلاً. كلّ الذين عرفوا أبي يقولون إنّه كان شخصاً عاقلاً وموزوناً، فكيف يأتي شخص عاقل وموزون عملاً كهذا؟». فأجابه رفيقه: «وأنا أيضاً أسمع كلاماً شبيهاً عن أبي»، ليضيف بعد ثوانٍ من الصمت المرتبك: «حتّى لو كانت البصلة لأبي، هل كان هذا كافياً لحصول ما حصل؟». وهنا ردّ رفيقه: «لكنّها لم تكن لأبيك»، وراح بصوت منخفض ينطق بكلمات غير مفهومة حملت رفيقه على مقاطعته بنبرة قويّة وحازمة: «بل هي لأبي، وهي أقرب قليلاً إلى بيتنا ممّا إلى بيتكم». وبالفعل تشنّج الاثنان وافترقا من دون كلمة وداع أو توافق على لقاء آخر. إلّا أنّ قريتهما راحت، بعد يومين على ذاك اللقاء، تتحسّب للأسوأ. فقد قيل إنّ مقرّ الحزب الشيوعيّ تعرّض لطلقات ناريّة ليلاً، كما قيل إنّ مقرّ حركة فتح تعرّض لطلقات مماثلة. وإذ جعل بعض أهل القرية يحمّلون هذا الطرف مسؤوليّة التحرّش، وبعضهم الآخر يحمّل ذاك، كان من المتّفق عليه أنّ السلاح المتوافر اليوم أشدّ فتكاً بلا قياس من بنادق الزمن القديم التي تأدّى عنها موت الجارين.

فمثلما طالت الحداثةُ الأفكارَ طالت الأسلحة، غير أنّ البصلة ظلّت تحفر عميقاً في الصدور. ومنعاً لما لا تُحمد عقباه، أرسل التنظيمان قياديّين من المدينة إلى القرية العكّاريّة فجمعا الشابّين الخصيمين اللذين تعانقا وقالا إنّهما سينسيان البصلة. بعد ذاك، صدر عن فتح والشيوعيّ بيان يؤكّد أنّ الجميع رفاق خندق واحد، وأنّهم ماضون إلى ما لا نهاية في حربهم على الإمبرياليّة والصهيونيّة، لن يحرفهم عن هدفهم هذا هدف آخر.