Site icon IMLebanon

بالة أونلاين

 

سوق “المستعمل” رائجة إلكترونياً في لبنان

 

أن تشتري “سيلوليراً مستعملاً او جهاز كمبيوتر سبق استخدامه فالأمر شائع لا يثير أي ردّ فعل، اما أن تشتري ثياباً مستعملة ارتداها أحد قبلك، فهذا كان حتى الأمس القريب أمراً مرفوضاً يلامس ” التابو” ولا يحكى عنه إلا سراً بين المقربين فقط.

 

كانت “البالة” بمفهومها القديم حكراً على الفئات المعدمة من الناس، تغيرت اليوم فارتدت ثوباً إلكترونياً جديداً، نفضت عنها لبوس الفقر والتعتير وصارت “تراند” يتفشى بين الشباب والصبايا بسرعة البرق، عبر صفحات بيع الملابس والأكسسوارات المستعملة على مواقع التواصل ولا سيما الانستغرام.

 

إنقلبت أمورنا، إنهارت الليرة وانهارت معها القدرة الشرائية لمعظم الناس فانخفضت الحركة التجارية في الأسواق ما بين الـ70 الى 85%، حسب احصاءات جمعية تجار بيروت، و”البالة” التي كانت لها زواريبها وحوانيتها “المشموسة” ولم يكن يقربها أي مواطن يعيش فوق خط الفقر بقليل، حتى لا يذاع صيته ويقال إنه يلبس من “البالة” صارت على ما يبدو حاجة لكثيرين من اللبنانيين، وإن اتخذت وجهاً مقنعاً جديداً واسماً إلكترونياً آخر هو Thrift Shop.

 

 

ظاهرة بلا شك غريبة ومستجدة في لبنان على الرغم من كونها معروفة في العالم. الـ Garage Sale مشهور جداً في الولايات المتحدة للتخلص من كل أغراض المنزل والملابس القديمة، وأسواق البرغوت شائعة في العالم للحصول على مقتنيات وتحف قديمة ونادرة، ومع تعاظم أسواق الأونلاين انتقلت هذه الظاهرة الى المواقع الالكترونية وصفحات التواصل وصارت لها صفحات مشهورة على صعيد العالم مثل OLX وغيرها. في لبنان، اتخذ سوق المستعمل أخيراً بعداً آخر، بعد انهيار الليرة والارتفاع المخيف للأسعار، ونمت كالفطريات الصفحات التي تعنى ببيع الملابس “التي سبق اقتناؤها”، حتى لا نقول مستعملة او Second Hand ونضرب صدقيتها وإقبال الناس عليها. فاللبناني واللبنانية المحبان للأناقة لم يعد باستطاعتهما التفتّل في الاسواق واختيار أحدث صيحات الموضة. لم يعودا قادرين على دفع الملايين لشراء حذاء او بدلة او فستان، ومحلات بيع الألبسة والمتاجر الكبرى من جهتها، ما عادت قادرة على الاستيراد بالعملة الصعبة ما كانت تعرضه من مجموعات جديدة في بداية كل موسم.

 

فكان الحل الذي فرض نفسه على المواطن اللبناني التوجّه نحو الصفحات التي تعنى ببيع الألبسة والأكسسوارات المستعملة، وتذكر أغنية زياد الرحباني القديمة: “عم بيع تيابي وما عندي تياب… مديون وقاعد أوفي”. وإذا كان الأهل مستعدين للتخلي عن متطلباتهم ويملكون ما يكفيهم وأكثر من ملابس تعود الى أيام العز السابقة، فالشباب، ولا سيما الشابات، واقعون في أزمة حقيقية؛ فبين أقساط المدارس والجامعات وتكاليف الحياة اليومية من بنزين ومطاعم ولوازم دراسية وغيرها، لم يعد بإمكانهم شراء ما يلزمهم من ملابس بعد ان صارت اسعارها خيالية. فالعائلات المتوسطة الدخل التي كان أبناؤها وبناتها يجدون في محلات مثل Zara و Mango و H&M وغيرها من اسماء المتاجر العالمية، ما يطلبونه من ملابس على الموضة وباسعار جيدة جداً، باتوا اليوم يجدون صعوبة في اقتناء جينز عادي يصل سعره الى 400000 أو 500000 ليرة فيما لم يكن سابقاً يتعدى 75000 ليرة.

 

ولأن الحاجة ام الاختراع فقد بحثت الصبايا عن حلول ممكنة لهذه المشكلة، وبادرت الكثيرات منهن الى إطلاق صفحات بسيطة في إخراجها وتسويقها تتوجه الى الصديقات والرفيقات أولاً، وتدعوهن الى بيع قطعهن المستعملة واستبدالها بقطع سبق لسواهن ان لبسنها. تروي رندة وهي صاحبة إحدى صفحات بيع الملابس “التي سبق اقتناؤها”، أن تجربتها انطلقت من ابنتها الشابة التي عادت من المول باكية في أحد الأيام، لأنها لم تستطع شراء تي-شيرت قطنية كانت قد رأتها سابقاً بـ 20000 ألف فإذا بها تصبح بـ80000… رندة التي كانت مدمنة في السابق على تصفح صفحات بيع الماركات الفاخرة المستعملة المعروفة في لبنان، وجدت أن هذه الصفحات لا يزال لها متابعوها وزبائنها، فلمعت في رأسها فكرة نقل التجربة الى صفحة لبيع القطع الشعبية المتوسطة السعر، التي تلائم الصبايا وتعود الى المحلات والمتاجر المعروفة التي كن يقصدنها سابقاً للتبضع. على صفحتها قد نجد حذاءً من Nike مثلاً أو معطفاً من مانغو ونظارات من parfois… بأسعار مقبولة تشابه اسعار زمان ووفق مقولة “على قد بساطك، مد إجريك”.

 

كلارا الجامعية صاحبة إحدى الصفحات المعروفة تروي أنها عرضت اولاً على صفحتها ثياباً للبيع لها ولشقيقتها بغية الحصول على القليل من مصروف الجيب، ولما رأت أن الملابس طارت بلمحة البصر تشجعت على عرض المزيد لاستبدال ملابسها السابقة بملابس جديدة. وهكذا تطورت صفحتها بسرعة وازداد عدد متابعيها فصارت تردها كميات كبيرة من طلبات بيع الملابس من اشخاص لا تعرفهم تفوق اعداد الشارين.

 

نسأل كلارا عن الأصناف الأكثر تداولاً على صفحتها فتؤكد أنها حتماً الجينزات والنظارات والأحذية الرياضية، لأن هذه قد ازدادت اسعارها بشكل كبير جداً وصار بعضها سلعاً نادرة، نظراً الى اقفال متاجرها في بيروت. فأحذية Nike مثلاً أو ملابس Adidas الرياضية التي يعشقها الشباب لم تعد متوافرة في الأسواق اللبنانية، لذلك هي مطلوبة جداً ويسارع الكثيرون الى بيع قديمهم منها واستبداله بموديلات اخرى. كذلك شكل إقفال عدد من متاجر الـ Outlet المعروفة، التي كانت تبيع براندزعالمية بأسعار مخفضة، حافزاً لزبائن هذه المتاجر للبحث عن بدائل لها عبر صفحات بيع الألبسة المستعملة. فمعظم هذه المتاجر التي كانت تستورد بضائعها من الولايات المتحدة باتت غير قادرة على الاستيراد واضطرت الى الإقفال النهائي او اقفال عدد من فروعها.

 

أرباح تطال الجميع

 

مع تفاقم الأزمة الاقتصادية من جهة ومع فترة الحجر المنزلي وتخوف الناس من النزول الى الأسواق، ازداد عدد صفحات بيع الملابس المستعملة بشكل مذهل وتجاوز عددها المئات وصارت “بزنس” مربحاً، وإن تفاوتت نسبة الربح بين صفحة وأخرى تبعاً لنوعية البضائع المعروضة وأسعارها، وبراعة اصحاب الصفحات في عملية البوستينغ boosting وتسويق منتجاتهم وإيصالها الى أكبر عدد من المتابعين. وما بدأ كحاجة او لعبة تحول بسرعة الى بديل عن الأسواق التجارية التي تتخبط بين فتح وإقفال، وتترنح بين بيع الموجود او استيراد بضائع جديدة. وعلى خلاف الأسواق التقليدية فإن أرباح هذا البزنس تطال اكثر من فئة، بدءاً بمن يبيع اشياءه المستعملة ويحصّل مبالغ هو بأمسّ الحاجة اليها، مروراً بصاحب الصفحة الذي ينال نسبة معينة من سعر البيع تتراوح بين 30 و40%، وصولاً الى الشاري الذي يتمكن من اقتناء غرض يرغب به بنصف سعره الأصلي. وتمتد الاستفادة الى شركات الدليفري التي تتولى إيصال الأغراض الى اصحابها وشركات تحويل الأموال المحلية التي يتم الدفع أحياناً بواسطتها. إنها ما يعرف بـWin Win Situation حيث الجميع رابحون على حساب التجار التقليديين.

 

نظراً الى نجاح صفحات البيع باتت البضائع متنوعة من ملابس وأحذية وحقائب يد ومستحضرات تجميل وعطور وعناية بالبشرة وحتى كتب ومجلات ولوازم مدرسية. وقد شهدت إحدى صفحات بيع الكتب المستعملة التي أطلقتها شابة جامعية نجاحاً باهراً منذ إطلاقها، وحققت ربحاً تجاوز نصف مليون ليرة بأسبوعين وباعت أكثر من 150 كتاباً في هذه الفترة البسيطة نتيجة غلاء الكتب المستعر في المكتبات.

 

نسأل رندة عن نوعية البضائع التي تعرضها على صفحتها فتقول: البضائع يمكن ان تكون جديدة كلياً او مستعملة، وعلينا أن نذكر حالة كل قطعة بوضوح ونضع صورتها بشكل لافت يجذب الزبائن. التلاعب غير مسموح والشفافية هي ضمانة النجاح. ترفض رندة رفضاً قاطعاً مقولة “البالة”، فهي وغيرها من اصحاب الصفحات لا يبيعون الملابس او الأكسسوارات القديمة البالية التي انتفت موضتها، بل قطعاً على الموضة في حالة جيدة جداً باتت تحمل إسماً انيقاً هو Preowned، وإن كان أكثرها طلباً ما يعرف بالـ Vintage اي قديم الطراز مع لمسة ستايلش خاصة. وتؤكد أنه مع انتشار فيروس الكورونا بات لزاماً على من يبيعون ملابسهم واغراضهم غسلها وتعقيمها جيداً قبل إرسالها الى صاحبة الصفحة.

 

التنافس على الشراء شديد لا سيما بين جيل الشباب وقد لا تدوم القطعة المعروضة على الصفحة لأكثر من بضع دقائق، لذلك بات المهتمون يحرصون على الحصول على notification كلما تم إنزال قطعة جديدة على صفحة يتابعونها. والبيع يتم وفق آلية خاصة، فأول من يكتب على الكومنت حرف R او S اي محجوز او مباع تذهب القطعة إليه.

 

هل نقول إنه الزمن الرديء الذي أجبر اللبناني على الوصول الى هذا الدرك؟ أم هو مجرد زمن مختلف فتح الآفاق على اساليب جديدة في التجارة في عز الأزمات، وحرر العقول من ضوابط كانت تقيدها بمفهوم العيب ونظرة الناس الفاحصة؟