أُحجية هذه العفرين، التي يسعى إليها الأتراك لإخراجها من سيطرة المقاتلين الكرد المنخرطين في سياق تنظيمي يحمل اسماً رنّاناً، وينخرطون في ارتباطات مع واشنطن يحسدهم عليها كثيرون!
ومكمن الأُحجية هو ذاته الذي يُمكن أن يُسبغ على مجمل النكبة السورية في مرحلتها الراهنة، حيث تتداخل المواقف المعلنة وتتضارب وتتناقض، وتتغيّر خريطة التحالفات بوتيرة تُقاس بالساعات والأيام! وحيث أداء قوى كبرى إقليمياً ودولياً، يكاد يشبه أداء هياكل وقوى حزبية صغيرة وبدائية وغير مكتملة، وكل مَن فيها يصدح على كيفه وبما يشاء!
عفرين التي وضعتها القيادة التركية في أساس عملية «غصن الزيتون» العسكرية في الشمال السوري، صارت محطّة اختصارية مكثّفة لنوادر كثيرة: «تَفَهَّمَ» الأميركيون موقف أنقرة وخشيتها على «أمنها القومي» من أيّ نمو جغرافي وسلطوي للحالة الكردية في الشريط الشمالي الحدودي السوري. لكنّ ذلك «التفهّم» لم يغيّر شيئاً في حقيقة تبنّي واشنطن لـِ«وحدات حماية الشعب الكردي»، لا في عفرين ولا في الضفة الشرقية للفرات عند دير الزور، ولا في مبنج ولا في غيرها! بل إن الصراخ التركي وصل إلى مداه بعد أن زادت الإدارة الأميركية، في الواقع، حجم مساعداتها المالية والعسكرية لتلك «الوحدات»، وبِكَرَمٍ استثنائي!
وعفرين هذه محطة محورية على طريق العلاقات التركية – الأسدية. مثلما هي مصدر لارتباك داخلي تركي غير مسبوق، أو بالأحرى غير مفهوم: يقول الرئيس رجب طيب أردوغان إنّ دخول قوات أسدية (والمصطلح مُلتبس!) إلى المدينة سيعرّضها لعواقب ميدانية كبيرة.. أي إنها ستُستهدَف من قبل القوات التركية مباشرةً. لكن وزير خارجيّته مولود شاويش أوغلو كان قال شيئاً آخر تماماً مفاده المختصر أنّ أنقرة «تُرحّب بدخول القوات السورية (الأسدية) إلى عفرين للقضاء على المسلّحين الكُرد فيها». أي إنّ أنقرة مأخوذة بالهمّ الكردي كلّياً، وإلى حدّ جعله مقياساً للتقارب أو التنابذ مع الأميركيين بدايةً! ومع بقايا السلطة الأسدية تالياً! في حين لا مشكلة من حيث المبدأ مع الروس! مثلما أنّ لا مشكلة في الأصل مع الإيرانيين طالما أنّ الطرفَين يختلفان على كل شيء ولكنّهما يلتقيان على وأد أيّ طموح كردي!
وذلك يفسّر التناقض في الموقف الرسمي التركي، وتأرجحه بين الترحيب والتهديد إزاء الخطوة الأسدية التالية في عفرين: تُقبل إذا كانت ضدّ الأكراد. وتُرفض إذا كانت معهم! وذلك في العموم، لا يحجب «حقيقة» أنّ أنقرة ضد الأسد في سائر أرجاء وأنحاء الجمهورية السورية المنكوبة!
والصورة من جهة بقايا السلطة الأسدية لا تقلّ «ظرافة»: الأكراد عدوّ مؤجل وسيأتي وقته على ما توعّدت الفصيحة بثينة شعبان منذ فترة! لكنّهم في الحالة العفرينية الراهنة قد يصيرون حلفاء في وجه الأتراك! في حين أنّ الأتراك «متفاهمون» مع الروس الذين هم حُماة الأسد! ويتلاقون مع الإيرانيين الذين هم أيضاً حُماة الأسد!.. وفي حين أنّ الأكراد أنفسهم، وهُمْ الضحايا التاريخيّون والأبديّون لجغرافيّتهم وجوارهم، لم يتردّدوا في لعب دور الجلاّد ضد المكوّن العربي في كل منطقة سيطروا عليها! من منبج شرقاً إلى كركوك غرباً!
وقصّتهم في ذلك ولاّدة أسى وقنوط، لكنّها لا تغيّر حقيقةَ أنّهم، مع أكثرية السوريين، صاروا وقوداً لمحركات مصالح إقليمية ودولية كبرى لا يتورّع أصحابها عن المساومات وعقد الصفقات وكأنّهم في سوق مفتوحة وغير محكومة بأي ضوابط أخلاقية!