ما من شكّ في أنّ التفاهم على الملف النوَوي بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من جهة، وإيران من جهة أخرى، إنّما شَكّلَ بدايةً صلبة لمسارٍ جديد في الشرق الأوسط.
صحيح أنّ ما حصل حتى الآن هو تفاهم على إطار مبادئ، في انتظار توقيع الاتفاق النهائي مع نهاية شهر حزيران المقبل، لكنّه شمَلَ تفاهماً في العمق على المسائل الخلافية، إنْ على مستوى النووي أو حتّى على مستوى الخريطة الجيوسياسية في المنطقة، ولو مِن خلال خطوط عريضة.
وإلّا كيف نُفسّر تصريح وزير الخارجية الاميركي جون كيري في عزّ التفاوض مع إيران عن وجوب التفاوض مع الرئيس السوري بشّار الأسد في شأن الحلّ السوري؟
مسؤول الشرق الأوسط السابق في الأمن القومي الأميركي مايكل دوران قال بوضوح خلال محاضرةٍ ألقاها أخيراً في واشنطن إنّ الرئيس الاميركي باراك اوباما يُحضّر المسرح لإنجاز تقارب تاريخيّ مع إيران، تماماً كما فعلَ الرئيس السابق ريتشارد نيكسون مع الصين في سبعينات القرن الماضي.
ويذهب ديبلوماسيون أميركيون أبعد من دوران في تقويمهم للاتّفاق مع إيران، فلا يتردّدون في اعتباره مدخلاً لإعادة تشكيل المنطقة.
لذلك لا مكانَ للشياطين في التفاهم على التفاصيل لإنجاز التوقيع نهاية حزيران المقبل.
فالإدارة الاميركية دخلت في معارك طاحنة مع إسرائيل حيال هذا الملف، وكذلك فإنّ إيران أرهقت قاعات التفاوض في مقاربتها لكلّ جوانب التفاهم، لدرجة أنّ الوفد الإيراني رفض حصول التوقيع في الفندق حيث كانت تجري المفاوضات، كونه شهدَ توقيع اتّفاقات دولية سابقة، وطلب نقلَ التوقيع إلى فندق لم يسبق أن شهدَ أيَّ اتفاقات تاريخية. لهذه الدرَجة لاحقَ الإيرانيون التفاصيل، ما يُعطي فكرةً واضحة بأنّ طهران ما كانت لتخطوَ هذه الخطوة الكبيرة لولا يقينها أنّ توقيع كامل الاتفاق مسألة حتمية.
في واشنطن يَعتقد العديد من مراكز الدراسات بأنّ أوباما لا يزال تحت تأثير الدراسة التي أعدَّها كلٌّ مِن وزير الخارجية السابق جيمس بايكر والسيناتور لي هاملتون في شأن العراق عام 2006 أيام سَلفه جورج دبليو بوش، والتي ارتكزَت على نصيحتين أساسيّتين: الأولى تحريك المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، وهو ما فشلَ فيه فريق أوباما، والثانية الانفتاح على إيران، وهو ما يضَع مدماكه أوباما حاليّاً.
وحسبَ مصادر ديبلوماسية أميركية، فإنّ فريق أوباما كان يحمل تعليمات واضحة بضرورة إنجاز هذه الخطوة، وكان أكثرَ مَن ساهمَ في إعداد هذا المشروع مِن فريق مساعدي أوباما الديبلوماسيان دينس ماكدونو Denis McDonogh وبين رودز Ben Rhods.
لذلك ربّما نصَح الديبلوماسي الأميركي التاريخي هنري كيسنجر المسؤولين الفرنسيين لدى زيارته باريس أخيراً بالقول: إنّ إدارة أوباما جاهزة لإعطاء مساحة أكبر للنفوذ الإيراني في المنطقة، فلا تخطئوا الحسابات.
وفي تأكيدٍ إضافيّ فإنّ المفاوض السابق لأوباما مع إيران روبرت إينهورن Robert Einhorn قال إنّ الاتفاق لم يكن ناضجاً وقابلاً للحصول كما هو حاصل الآن. وتكفي الإشارة إلى اتّصال التهنئة الذي أجراه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز مع الرئيس الاميركي فيما يشبه الاعتراف بما حصل.
باختصار، فإنّ الاتفاق النووي بصيغته النهائية يبدو شِبه حتمي، ولأنّه يشكّل المدخل لإعادة ترتيب المنطقة فهذا يعني أنّ شهر تمّوز المقبِل سيشهد انطلاقة قوية للتفاهم على تسويات الملفّات المشتعلة في المنطقة، لا بل فإنّ المنطق يقول إنّ وضع التصوّرات الأوّلية في هذا الشأن بدأ فعلياً لدى العواصم المعنية، وخصوصاً طهران والرياض.
لكن في انتظار الوصول فعلياً إلى هذه المرحلة والتي ستبدأ فوراً بعد توقيع الاتّفاق النهائي، ستَشهد الأشهر الثلاثة الفاصلة سَعياً من القوى الإقليمية لاكتساب أوراق ميدانية تُعزّز موقعَها التفاوضي، ما يعني أنّ التصعيد سيكون لغة الساحات تمهيداً لطاولات التفاوض.
يقال إنّ إيران وصلت إلى الحَدّ الأقصى ميدانياً قبَيل إنجاز توقيع إطار الاتّفاق، لكنّها فشلت في دحر «داعش» لوحدِها في تكريت، ما أوجَب شراكةً مع واشنطن. أمّا في اليمن فبدَت الصورة أكثرَ تعقيداً، ذلك أنّ واشنطن التي تأخذ على السعودية شَنّ «عاصفة الحزم» من دون التشاور المسبَق معها، تبدو ملزمةً بالمساعدة في «دَوزَنة» الساحة اليمنية لكي لا تصبح رمالاً متحرّكة يغرق فيها الجميع.
وهناك مَن يعتقد أنّ واشنطن لم تكن تمانعُ وصولَ الحوثيين إلى صنعاء لإرساء توازن في اليمن يَسمح بفتح أبواب الحوار بين السعودية وإيران. وأنّ هذا ما يُفسّر «صمت» واشنطن وعدمَ قيامها بأيّ مجهود لحماية صنعاء، على رغم أنّ طائرات «الدرونز» الأميركية موجودة باستمرار في السماء اليمنية لمطاردة واستهداف مسؤولي «القاعدة».
ويؤكّد سعي طهران لتوسيط سلطنة عمان ومن ثمّ تركيا للتفاوض مع الرياض على تسوية سياسية في اليمن، حتميةَ الذهاب إلى تسويات سياسية بداية الصيف المقبل. أمّا لبنان الذي عاش على وقع التطوّرات الإقليمية فلن يزيحَ عن المسار العام هذه المرّة أيضاً.
صحيح أنّ مساعِدَ وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط أنطوني بلينكن كان قد حَدّد زيارته إلى بيروت قبل حصول التفاهم الأميركي – الإيراني، إلّا أنّ واشنطن كانت قد باشرَت حركةً لتسويق الاتّفاق ليقينها أنّه حاصلٌ حتماً. بلينكن الذي شغلَ موقعاً رفيعاً جدّاً في مجلس الأمن القومي قبل تعيينه أخيراً مساعداً لوزير الخارجية معروفٌ عنه إلمامُه الكبير بشؤون المنطقة.
وهو وجَّه رسالتين أساسيتين في زيارته: الأولى تتعلق بتسويق الاتّفاق مع إيران وطمأنة معارضيه، والثانية بالتحذير من مغبّة اللعب بالستاتيكو الحالي وهزّ الاستقرار الحكومي. ولم ينسَ بلينكن تمريرَ تحذير بـ»مساءلة» معَطّلي الاستحقاق الرئاسي مستقبَلاً.
تدركُ واشنطن أنّ التحضيرات قائمة وبقوّة لمعركة قاسية في القلمون تفصلنا عنها بضعة أسابيع وتبدأ تحديداً فور تنفيذ الخطة الأمنية في بيروت والضاحية الجنوبية.
وواشنطن تتخوّف أيضاً من ارتداد هذه المعركة إلى الداخل اللبناني من خلال عمليات إرهابية وتفجيرات، وربّما اغتيالات. وواشنطن تخشى أن يطيحَ النزاع السياسي الداخلي بالحكومة لحظة ارتفاع حرارة المواجهات خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، لذلك كانت رسائل بلينكن.
وقد يسبق هذه الحماوة إطلاقُ العسكريين المحتجَزين لدى «النصرة»، الأمر المرجّح حصوله الأسبوع المقبل. أمّا العسكريّون المحتجَزون لدى «داعش» والذين نُقِلوا إلى الداخل السوري، فإنّ مرحلة إطلاقهم ستبدأ بعد الإفراج عن محتجَزي «النصرة» من خلال اتّفاق يُعلَن من تركيا بإشراف المدير العام للأمن العام اللواء عبّاس ابراهيم.
في كلّ الأحوال، فإنّ الحماوة المنتظَرة هي الطريق للوصول إلى تسوية حول لبنان قد ترى النور نهاية الصيف. وكما مهّد أوباما لمفاوضاته مع طهران من خلال رزمةِ عقوبات قاسية مرّرَها لدى وصوله إلى البيت الأبيض وقرأها كثيرون بطريقة خاطئة، فإنّ التصعيد الذي سنشهده قريباً هدفُه الولوج إلى تسويات شاملة. عسى ألّا يقرأها اللبنانيون بطريقة خاطئة مرّةً جديدة.