تضجّ الكواليس السياسية بأخبار وروايات عن وعود ومقايضات رئاسية وعسكرية وأمنية، فيما الوقائع السياسية تؤشّر إلى خلاف ذلك، وتنذر بتصعيد سياسي بدأه تكتل «التغيير والإصلاح» ومن المتوقع أن يستكمله بشكل متدرّج وتصاعدي.
المصارحة تشكّل المدخل الصحيح لأيّ كلام جدي وبنّاء، وكلفتها تبقى أقل بكثير من عدمها. وفي السياسة لا يوجد هدايا مجانية، لأنّ لكل طرف تحالفاته وحساباته وخلفياته، وبالتالي لن يقدم على أيّ خطوة من باب الخجل أو المسايرة، ولذلك من الأجدى قول الأمور كما هي، لأنه بالمصارحة يمكن قطع نصف الطريق وفتح الباب أمام حوار للبحث عن تسوية أو بدائل.
فمن حق المسيحيين ان يرفعوا شعار ما يحقّ لغيرهم يحقّ لهم، ولكن عليهم أن يأخذوا في الاعتبار مسألتين أساسيتين: عدم وجود أحادية مسيحية، وخشية إسلامية من ترجيح المسيحيين كفةّ طرف إسلامي على آخر.
ومن حق العماد ميشال عون أن يطمح لرئاسة الجمهورية وقيادة الجيش وغيرهما من مواقع، لأنه يملك الحيثية المسيحية والمشروعية التاريخية، ولكن على المسلمين والمسيحيين أخصام عون مصارحته بما هو متاح، ولماذا، وما هو غير ممكن، ولماذا؟
ومن الخطأ ترك التساؤلات العونية من دون أجوبة واضحة وصريحة، لأنها تعكس استِلشاءً بمطالب تكتل مسيحي وازن. وإذا كانت الخشية من استخدام العماد عون، على سبيل المثال، موقف «المستقبل» الرافض انتخابه رئيساً بتصوير أنّ السنّة ضد وصول الرئيس المسيحي القوي، فهذه الخشية هي في غير محلها لسببين: لأنّ الالتباس في موقف «المستقبل» سيدفع عون عاجلاً أم آجلاً إلى اتهامه برفض وصول المسيحي التمثيلي، فيما من مصلحته أن يحسم موقفه بوضوح. ولأنّ من مسؤولية «المستقبل» أن يثبت بأنّ وقوفه ضد وصول عون ليس لأنه يمثّل مسيحياً، بل لأنه يخشى من أن يرجّح كفة «حزب الله» في السلطة.
فالحزب لم يساير نصف المسيحيين عندما رفض ترشيح الدكتور سمير جعجع، ورفضه لجعجع مَردّه إلى موقفه الوطني بطبيعة الحال، حيث أنه لن يتهاون في ظل الانقسام العمودي القائم بإيصال رئيس يرجّح كفة الصراع لمصلحة أخصامه، والأمر نفسه ينطبق على «المستقبل» الذي عليه مصارحة عون ومن خلاله المسيحيين واللبنانيين بأنه ضد وصوله لأسباب وطنية لا مسيحية، خصوصاً انه يتحمّل مسؤولية إعطاء عون إشارات في المرحلة الأخيرة بأنه ليس ضد وصوله في حال كان ثمرة توافق مسيحي-مسيحي، أي رَمي الكرة في ملعب المسيحيين، فيما هي في غير مكان تماماً.
فهل ترشيح عون لجعجع يجد سبيله إلى قصر بعبدا؟ بالتأكيد كلا، لأنّ هذا الترشيح سيصطدم بموقف حازم من قبل «حزب الله».
وهل ترشيح جعجع لعون يجد سبيله إلى قصر بعبدا؟ بالتأكيد كلا إذا كان موقف «المستقبل» من عون مماثِل لموقف الحزب من جعجع، والإشارات التي صدرت في الأسابيع الأخيرة تؤكد هذا المنحى.
وهذا الكلام لا يعني أنّ المدخل لانتخاب رئيس يتم حصراً عبر مراعاة التوازنات الوطنية بامتداداتها الإقليمية والتي لا يمكن تجاهلها والتقليل من شأنها، بل أيضاً من خلال مراعاة التوازنات المسيحية، ولكن حتى لو نجح جعجع في ترتيب تفاهم وطني-مسيحي مع عون، غير أنّ هذا التفاهم سيصطدم بالتوازنات الوطنية-الإقليمية، علماً انّ جعجع كان صريحاً مع عون بوضعه الرئاسة كحصيلة للتفاهم السياسي ونتيجة له.
وفي ظل غياب الأجوبة الواضحة والمقاربة الصريحة سيواصل عون تصعيده التدريجي الذي لن يقف عند حدود استمرار الفراغ الرئاسي، بل سيطاول الحكومة بعد المجلس النيابي ويدخل البلد في شلل دستوري يمكن ان ينعكس على الاستقرار السياسي.
وبالتالي، هناك مصلحة وطنية لتجنّب هذه اللحظة من خلال الانفتاح على عون ومصارتحه، لا التعامل معه على قاعدة الإهمال والتطنيش وعدم الاكتراث واللامبالاة التي تشكّل إساءة للمسيحيين لا فقط لعون.
فلماذا، على سبيل المثال، لا يصارح الرئيس الحريري العماد عون بهواجسه من وصوله إلى بعبدا؟ ولماذا لا يطلب منه الضمانات التي تبدد هذه الهواجس؟ ولماذا لا يحسم موقفه الرافض لانتخابه ويترجم ما نقل عن الرئيس فؤاد السنيورة إلى مبادرة لجهة إقفاله باب الرئاسة مقابل فتحه باب قيادة الجيش بعد حسم مسألة الرئاسة لا قبلها؟ ولماذا إعطاء الانطباع بعدم الاستعداد لإعطاء عون أيّ شيء، لا في الرئاسة ولا في قيادة الجيش ولا في غيرهما؟ ومن يخدم هذا الانطباع؟
فالمصارحة كفيلة وحدها بتبديد أيّ انطباع خاطئ، وقطع الطريق امام أيّ توظيف في غير مكانه، فيما الجنرال يستحق من أخصامه مصارحته بما هو ممكن وغير ممكن من منطلقات وطنية لا مسيحية، وبعد المصارحة تصبح الكرة في ملعب الجنرال، فإمّا أن يصوّب بما يطمئن الشريك السنّي بعد المسيحي ويفتح طريق بعبدا، أو أن يتمسّك بسياساته ويتحمّل كلفة عدم تموضعه وسطياً.