Site icon IMLebanon

مَن يتحكّم بـ”الحرب الشاملة” وهل من “صدمة” مطلوبة؟

 

 

لا تشبه حرب غزة أيّاً من الحروب التقليدية السابقة التي عرفها العالم. فمَن أطلق شرارتها في 7 تشرين الأول الماضي لم يكن يدري انها ستؤدي الى ما آلت إليه. ومَن ارادها حجة للقيام بما يريده ظهر عاجزاً لأنه لم يكن مستعداً لها. وعليه، وفي غياب اي «صدمة» حتى اللحظة، فإنّ فقدان الحلول والمخارج ليس أمراً مستغرباً. وعليه، من يقرر مستقبل هذه الحرب من الغد؟

 

سيسيل حبر كثير في القراءات التي تحتملها عملية «طوفان الاقصى» ومعها «السيوف الحديدية»، وقد يطول انتظار الاعترافات التي تروي الظروف التي رافقت التخطيط لها وتنفيذها قياساً على حجم المفاجآت التي جاءت بها. فالروايات الاولى تقدم عنها الكثير من السرديات الغريبة والعجيبة عدا عن المنطقي منها، فما تم نقله من وقائع ما حصل وتلك التي رافقت الرد الاسرائيلي لإبعاد المسلحين منها واستعادة السيطرة على ما فقده من أراض مصادرة ومحتلة على مساحة الكيبوتزات والمواقع العسكرية التي فقدها أو تلك التي أُخليت واختُطف عسكريوها في الساعات الأولى للعملية لم تكتمل فصوله بعد. وما يُبرّر ذلك حال الارباك والفوضى العارمة التي عاشتها اسرائيل، بحيث ان الجيش استهدف في الساعات الاولى للعملية رفاقاً له من عسكريين ورجال الشرطة المحلية والمدنيين فقتل من قتل ودمّر ما دمّر بنيران صديقة.

 

كان ذلك قبل ان تكتسب الحرب طابعها التقليدي، بعدما تكونت الجبهات التي تطوّق القطاع مجدداً، وتحددت محاور الغزو الاسرائيلي البري بعد كثير من التردد، الى ان وضعت الخطط لِشَقه نصفين لتسهيل السيطرة على مواقع القوى فيه. تزامناً مع الاعتماد على الآلة التدميرية البعيدة عن الأعمال العسكرية التقليدية. فمثل الحرب التي فرضت على الجيش الاسرائيلي مرة أخرى في منطقة تكررت فيها الحروب مع المنظمات والفصائل الفلسطينية منذ اكثر من عقدين من الزمن، قادَته الى أزقة القطاع المحاصر بعدما كان قد خرج منه. وهي حرب لم تكن تستدعي اعمال التدمير التي لجأ إليها سوى للتعبير عن حجم الغضب والإنتقام الذي يُتقنه والحقد الذي يكتنزه تجاه الفلسطينيين.

ولا يُخفي المراقبون العسكريون عند مقاربتهم لما كان ينقل من غارات جوية نقلت فظاعاتها مباشرة على هواء الفضائيات ما قصده الجيش من أعمال التدمير المُمنهج بهدف القضاء على حماس وقتل قادتها. ومن دون مراعاته حجم التعداد السكاني في القطاع، الى درجة لا تشبه اي بقعة من بقاع الارض. فاستهدفت بداية الأبراج التي شكلت مظهراً من مظاهر البناء الحديث، قبل أن تجرف الشوارع والأحياء السكنية بكل أنواع القنابل الفراغية والخارقة والرجراجة بما حصدته زلازلها من آلاف الضحايا قبل الوصول الى اي مقاتل حمساوي او من أي فصيل آخر. رغم ان حجته كانت ملاحقة القياديين منهم، قبل ان يتبيّن انها حصدت النساء والاطفال، فقيل عندها انها كانت تستهدف البحث عن اسراهم ومداخل الانفاق التي تحولت ملجأ للمقاتلين ومخازن أسلحتهم وقواعد صواريخهم.

 

ولم يكتف الإسرائيليون بذلك، فانتقلت الآلة العسكرية لتستهدف القطاع الصحي والاستشفائي والمؤسسات التابعة للامم المتحدة وطواقم الإعلاميين ومؤسساتهم بطريقة هادفة الى معاقبتهم ومطاردة عائلاتهم، كما المراكز التي آوَت النازحين الذين لجأوا الى علم الأمم المتحدة طلباً للحماية المفقودة. وكل ذلك كان يجري تحت غطاء دولي يبرّر للاسرائيليين «حقهم» في الرد على عملية «طوفان الاقصى» بالنظر الى ما انتهت اليه، من دون مراعاة وجود اكثر من 230 اسيراً اسرائيلياً من عسكريين ومدنيين وحاملي الجنسيتين الإسرائيلية مع الغربية والآسيوية المتنوعة. فما اصاب هيبة جيشها واجهزة استخباراتها وتعطيل قدراتها الاستباقية وتلك التي تتجاوب مع اي خطر داهم كان أكبر بكثير وهو ما لم تعرفه الدول العبرية.

 

لم تكن الإشارة الى هذه المعطيات بهدف تأريخ ما حصل وتدوينها بل للدلالة على فقدان الأفق السياسي للحرب وأبعادها وتعدد الأهداف المتناقضة. ففي الوقت الذي أعلنَ الفلسطينيون ان عمليتهم تهدف الى تصفير ما في السجون الاسرائيلية من معتقلين وحماية الاقصى والقدس، اختار الاسرائيليون هدفا سورياليا يقول بالقضاء على «حماس». وقد تسلحوا بالعطف والدعم الدوليين وما قادت إليه الجسور الجوية التي وفّرت لهم الصواريخ والاسلحة المتطورة والدقيقة لتدمير القطاع ونقل سكانه الى سيناء تنفيذاً لمشاريع سابقة كانت ما تزال تُحفظ في ادراجهم وعقول قادتهم، رغم التجارب السابقة الفاشلة. وقد تعذّر عليهم توفير الحماية لسكان غلاف القطاع كما على الحدود الشمالية مع لبنان لمجرد ان انضَمّت الجبهة اللبنانية المساندة للفلسطينيين في اليوم التالي للغزو الذي تعرضت له المراكز العسكرية والمستوطنات في غلاف غزة.

وعليه، فإنّ المراجع السياسية والديبلوماسية كانت تراقب ما جرى من دون القدرة على استكشاف المرامي السياسية والأهداف التي يمكن حصادها من استخدام مفرط للقوة، وما أدت إليه من مجازر تَغاضى العالم الغربي بكامله عنها في المرحلة الاولى قبل ان تفرض عليها نتائجها الدموية الاعتراف بفظاعتها، في ظل العراقيل المفتعلة التي حالت دون التوصّل الى اي وقف لإطلاق النار وتزويد القطاع مقومات الحياة من محروقات ودواء وماء في ظل انقطاع الاتصالات والإنترنت. وهو ما كان نتيجة حتمية للتمادي في ارتكاب الجرائم الى بدايات تغيير ملموس في الرأي العام الذي يساندها فبدأ الحديث عن الحلول السياسية المفقودة لدى اي من الأطراف الدولية والاقليمية المتناحرة.

 

وعلى هذه الخلفيات، يمكن فهم العجز الأميركي عن لجم آلة الحرب الاسرائيلية، ومعها فشل المحاولات الفاشلة التي شهدها مجلس الأمن الدولي. كما في ما اريد له من «مؤتمر القاهرة للسلام» بعد تعطيل «قمة عمان الرباعية»، وقبل ان تثبت مجموعة القمم السعودية ـ الافريقية والعربية ـ الاسلامية التي استضافتها الرياض بمشاركة ايرانية رفيعة المستوى للمرة الاولى الى جانب من يمثّل 56 دولة عجزها عن التوصل الى اي قرار يلجم الحرب واصدار قرار بوقف النار وفتح المعابر، على ان تمهّد له خطوات محدودة تتخللها عمليات تبادل الاسرى مع المعتقلين. وهو ما تزامَن مع العجز عن ذلك في مجموعة من اللقاءات السرية التي استضافتها الدوحة على مستوى رؤساء اجهزة المخابرات الاميركية والاسرائيلية والمصرية والقطرية والتركية التي كانت تفعل فعلها في الأزمات السابقة لمجرد التفاهم على إجراءات عملية ما زالت مفقودة.

وبناء على ما تقدّم من المؤشرات، فإنّ ما يجري من عمليات عسكرية يقال انها «مضبوطة» بقواعد اشتباك واضحة، يمكن ان تؤدي في اي لحظة الى انفجار غير محمود النتائج في ظل العجز الدولي عن الامساك بزمام الحرب ومجرياتها ان توسعت الى جبهات إضافية. وهو ما يؤدي الى تحميل المسؤولية كاملة الى القوى الدولية من اميركية واوروبية تدعم اسرائيل، في انتظار اللحظة التي يثبت فيها اي من الاطراف القدرة على ان يلعب دور الوسيط المقبول لتتراجع الرؤوس العسكرية الحامية من مواقعها المتقدمة. وهو ما يُمهّد لحلول سياسية وانسانية. وإلى تلك اللحظة يبقى الأمر رهن ما يمكن ان يحمله الميدان من تطورات ومفاجآت يقال ان البعض منها باتَ على الابواب في ظل ما يخطّط له من اعمال صادمة باتت «محتملة» إن لم تكن «مطلوبة» ولم تعرفها الجبهات المختلفة حتى اليوم لتخرج منها الحلول الممكنة.