في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى اختارت طهران أن تكون جزءاً من المشهد فأُدخل الجنوب اللبناني في مشهدية نارية منضبطة محدودة الأهداف ومجهولة الأفق قفز عبرها حزب الله فوق القرار 1701 تحت عنوان مساندة المقاومة الفلسطينية، كما قفز العدو الإسرائيلي فوق القرار عينه تحت عنوان الجاهزية لحماية الحدود الشمالية وبما يراعي دبلوماسية نارية عابرة للحدود سئمها اللبنانيون منذ العام 2006.
لم تلبث طهران بعد ذلك أن شاءت الإطلالة على المشهد من المدخل الجنوبي للعالم العربي فدفعت بالحوثيين لاستهداف السفن التجارية المتوجهة الى إسرائيل عبر البحر الأحمر ، تارةً من خلال استعراض صاروخي وتارةً أخرى عبر المسيّرات تحت عنوان تسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة. هذا وقد أضافت البيانات حول إسقاط المدمرات الأميركية للمسيّرات الحوثية أو اعتراض صواريخهم مزيداً من السوريالية على مشهد شاءت الولايات المتحدة من خلاله إقناع دول المنطقة بتوازن حقيقي مفترض بين الأساطيل الأميركية والقدرات الحوثية.
ثابرت طهران على التنصل من أي علاقة لها بما جرى في غزة وعلى الدعوة الدائمة لعدم توسيع دائرة الصراع ولكنها فشلت في تصدّر المشهد من خلال قيادة ما يجري في الجنوب اللبناني وفي البحر الأحمر عن بعد. لقد خطف الصمود الفلسطيني في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية والأميركية كل الضوء واستحقت العملية العسكرية التي دخلت شهرها الثالث تسمية طوفان الأقصى بعد أن استكملت المواجهات اليومية بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية ورام الله المشهد البطولي في غزة.
إنّ مقارنة موضوعية بين ما يجري في غزة لجهة معادلة القوة مع العدو الإسرائيلي والنتائج المحققة، وما يجري في كل من جنوب لبنان والبحر الأحمر لجهة ضبابية الموقف والأهداف تُفضي إلى حقيقة واضحة أن غزة ليست جزءاً من المحور الإيراني الذي يجمع العواصم العربية الأربعة بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء، وأنّ ما تقدمه غزة كنموذج يختلف تمام الإختلاف عما يقدمه حزب الله في الجنوب اللبناني أو الحوثيين في البحر الأحمر.
في غزة الكلمة للميدان، لا نقاش في ذلك. بيانات الإعلام العسكري للمقاومة الفلسطينية تطغى على كل المؤتمرات الصحفية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيانين نتنياهو التي لم يعد لها من هدف سوى محاولة استلحاق فصول الإخفاق اليومي التي ترتكبها قواته، وآخرها تصفية ثلاثة من الأسرى في حي الشجاعية. لم تؤدِّ اعترافات الجيش الإسرائيلي بمقتل الأسرى على يد جنوده سوى الى مزيد من المواجهة لنتانياهو مع الشارع الاسرائيلي، بحيث بدت الحرب الوجودية التي يسوّق لها محكومة بهزيمة أكيدة. كذلك لم تفلح محاولات كسب الوقت من خلال استمرار عمليات التدمير في خان يونس وشمال القطاع فكان لا بد من العودة إلى المفاوضات مع حركة حماس كسبيل وحيد لإستعادة الأسرى.
وفي هذا السياق أعطت الحكومة الإسرائيلية الضوء الأخضر لمدير جهاز الموساد الإسرائيلي دايفيد بارنيا للإجتماع برئيس الوزراء القطري محمد بن عبدالرحمن بن جاسم آل ثاني للتباحث حول صفقة جديدة. وما الزيارات المكوكية لمستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان ووزير الدفاع لويد اوستن الى المنطقة سوى دلائل جدية على سعي أميركي حثيث لإخراج إسرائيل من مأزق سياسي وميداني فرضته المقاومة الفلسطينية وربما تعبير عن تغيير أكيد في المقاربة الأميركية للوضع في غزة.
مما لا شك فيه أن القيود الإيرانية والأميركية على السواء لم تسمح بتطوير الموقف الميداني على الحدود اللبنانية مع العدو الإسرائيلي. لقد إلتقت التحذيرات الأميركية حيال أي تطور في الموقف الميداني مع عجز طهران عن المغامرة بمكتسباتها في لبنان، مما أفضى الى ستاتيكو يصعب الخروج منه، وربما هذا ما استدعى طهران الى تطوير الموقف في البحر الأحمر. لقد أفضت الهجمات الصاروخية تحت عنوان منع السفن التجارية المتوجهة الى إسرائيل بالعبور، والهجمات غير الفعالة على السفن الحربية الأميركية إلى إطلاق تحالف غربي لتشكيل قوة حماية بحرية متعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة لدعم حرية الملاحة في البحر الأحمر تحت مسمّى «حارس الإزدهار».
وبصرف النظر عن التداعيات السلبية على قناة السويس والإرتفاع في كلفات التأمين والشحن التي تسبب بها توقف عدد كبير من شركات الشحن عن استخدام البحر الأحمر وتوجيه السفن للإلتفاف عبر رأس الرجاء الصالح، فإن ما حصل ليس سوى استدعاءً واضحاً من قبل طهران لمزيد من الحضور الأميركي الى المنطقة، وربما تأميناً لمبررات هذا الوجود ومزيداً من التورط العسكري الغربي في المنطقة القادر على التحول الى حصار بحري يفرض على المنطقة في ظروف معينة.
فهل اندفعت طهران نتيجة أفول حضورها في غزة الى مزيد من التورط في البحر الأحمر؟ وهل تتوقف المغامرة الإيرانية عند حدود البحر الأحمر بعد تمرد غزة على المحور الإيراني؟؟؟