تعوّد العالم على اللعب بالحدود، منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. كانت هناك أوطان، وكانت هناك حدود، وكانت هناك سيادات، وكانت هناك سياسات، إنتهكت جميعها، لعب بها الأقوياء، كمن يسرع بالكرة في الملعب. فتراها تطير من يد إلى يد، ومن قدم إلى قدم، ومن فريق إلى فريق. وأما الجمهور، فهو للتشجيع و للتصفيق، أو للتضارب بالعصي إن وجدت، وبالكراسي وبالتنك، وربما بالسكاكين، إذا ما كان اللعب يخرج عن قواعده، لهذا الفريق أو ذاك.
العيون جميعها، مشدودة إلى دقائق اللعب، إلى الدقائق الأخيرة في اللعب، حيث سيحسم الأمر أخيرا، وتكون النتائج: الرابح والخاسر، وربما التعادل.
دقائق اللعب الأخيرة، عادة ما تحدد النتائج بين الفريقين، إذا ما كان كلاهما على مقدار عظيم من القوة، شرط ألا يكون الحكم منحازا، شرط أن لا يكون هناك غش وخديعة، شرط أن يكون اللاعبان يحترمان قواعد اللعب.
فتح القرن الحادي والعشرون، بل فتحت الألفية الثالثة، على اللعب بحدود كثيرة، وبأوطان كثيرة. ولا زالت الملاعب على حماوتها، في الشرق الأوسط، وفي الشرق الأقصى، وفي أفريقيا، وفي آسيا، وفي أوروبا، بعدما كانت قد أغلقت الملاعب في الأميركيتين، فقد حسمت الحرب هناك على زغل، وتراجع كل فريق قليلا عن حقوقه وعن مواقفه، ودفنت النار تحت الرماد.
الحرب في الشرق الأوسط، أكثر ما تعنينا اليوم. فقد فتحت منذ الحادي عشر من أيلول، ثم صارت إلى التكاثر في الساحات، وفي الملاعب. سقط العراق بالضربة القاضية، وتتالت الضربات في لبنان وفي سوريا. ثم إنتقلت أقدام اللاعبين إلى سائر البلدان منذ العام 2010. قالوا بملاعب «الربيع العربي»، وإشتدّ اللعب بين الأقوياء. وصارت الكرة تتدحرج من يد إلى يد، وتتدافع من قدم إلى قدم، وفتح الملعب الدولي في أوكرانيا. ها هو يبلغ عامه الثالث، وفتح اللعب في السودان، وبلغ أشدّه من الإنقسام، وتعسكر الشرق الأوسط، نزل بكلكله إلى الملاعب. فكان طوفان الأقصى، في دقائق اللعب الأخيرة، وصار على العالم، أن ينتظر: إحراق فلسطين كلها، إحراق الملعب الفلسطيني كله، في غزة والقطاع، وفي مدن الضفة. صار العالم ينتظر دقائق اللعب، في الساحة الفلسطينية كلها.
عملية طوفان الأقصى، فتحت الساحات كلها على بعضها. صارت ملعبا واحدا، صارت إسرائيل وخلفها الغرب والشرق، إلى دقائق اللعب الأخيرة، تريد أن تظفر بكل فلسطين. تخلّت عن إتفاق أوسلو، تخلّت عن جميع الاتفاقات المبرمة، جعلتها لنيران الطائرات والمسيّرات، ولقذائف الدبابات، جعلتها لنيران الإقتحامات، جعلتها للنار والدمار ولآلة الحرق والخرق والهدم، في غزة وفي مدن غلاف غزة، فهذه هي رفح، بعد غزة تقدم مدينة للذبح.
في دقائق اللعب الأخيرة، صار كل شيء مستباحا للعدو. صارت المستشفيات عرضة للهدم. صار المرضى يقتلون بدم بارد، في عمليات إعدام مسبقة. صار الأطفال الخدّج، يحرمون من الأوكسجين، حتى يموتوا إختناقا. فكل شيء للهدم وللموت في غزة، وفي مدن غزة، وفي قرى غزة. فاللاعب القوي، يريدها أن تكون نظيفة من الفلسطينيين تماما، يريدها أن تكون نظيفة من الدور والحقول، حتى يتسنى له أن يستجم على شاطئ غزة، حتى يسبح بكل راحته، في بحر غزة، حتى ينعم بكل حقول الغاز والنفط في بحر غزة، وحتى يستمتع وقته فيها، بأريج حقول الورد.
دقائق اللعب الأخيرة، تفترض أن يكون القطاع نظيفا تماما، وإلّا فما الفائدة من النزول إلى ملعب الطوفان، إذا لم تكن هذه هي غلوته القصوى.
الحرب العالمية الثانية لعبت بالخرائط، لعبت بالبلدان، لعبت بالأوطان، جعلت لها حدودا جديدة، وجعلت لها هويات جديدة، وجعلت لها حكاما جددا، ألحقوا بها. وفي دقائق اللعب الأخيرة بعد عملية طوفان الأقصى، يجب أن تستكمل نتائج الحرب العالمية، فتقسم سوريا، ويقسم لبنان، وتشطب غزة والقدس وبقايا الضفة، عن الخريطة!