صبيحة السابع من أكتوبر 2023 استفاق العالم على مشهد خبره قبل 50 عاماً أي في 6 أكتوبر 1973، عندما اخترق الجيش المصري خط برليف واقتحم الحيش العربي السوري الجولان المحتل. لكن 7 أُكتوبر 2023 شهد دخول رجال «حماس» من فوق الشريط العازل الإلكتروني ومن تحته على حدود غزة، واختراقه من البر والبحر، واجتياح عشرات المستوطنات والمعسكرات الإسرائيلية في غلاف غزة، وقتل المئات من جنود العدو ومستوطنيه وجرح الآلاف منهم، وأسر العشرات ومن بينهم ضباط كبار. عملية أذهلت القاصي والداني بحرَفيتها ودقّة خطواتها وتنوّع أدواتها، كان مشهداً هوليودياً، لكنه واقعي وليس خيالياً. أكتب هذا المقال بعد أيام على بدء عملية «طوفان الأقصى» والمقاتلون الفلسطينيون ما زالوا متوغلين في عدد من مستوطنات غلاف غزة يقاتلون ويحتجزون رهائن، وقوات العدو مربكة جداً في مواجهتهم، وجلّ ما تقوم به هو التدمير الممنهج عبر سلاح الجو للأبراج والبيوت السكنية في غزة، وقيادة العدو التي اتخذت قرار الحرب لا تزال تحت الصدمة وتواجه الصعوبات في استنفار قوات الاحتياط المنقسمة على نفسها على خلفية قرار حكومة نتنياهو اليمينية في الحد من صلاحيات المحكمة العليا، ونتنياهو يفشل في ترميم وضع حكومته بالاتفاق مع المعارضة.
لقد كشفت هذه العملية غير المسبوقة بتاريخ الصراع العربي الصهيوني، عن جهوزية ملفتة لثوار فلسطين، وعن إرادة صلبة في متابعة النضال من أجل التحرير واستعادة الحقوق. إرادة لم يتغلّب عليها مرور الزمن الذي طالما راهن عليه العدو، بأنّ أجيال ما بعد الـ1948 ستنسى زمن النكبة وتتأقلم مع الواقع المعاش وتتطبع معه. كما كشفت عملية «طوفان الأقصى» عن القدرات العسكرية الهائلة والأدوات التقنية والتسليح المتعدد الأوجه الذي بات يمتلكه المقاومون الفلسطينيون رغم الحصار المتمادي من قوات العدو الإسرائيلي للقطاع لمدة 17 عاماً. هذا فضلاً عما أظهرته هذه العملية من فشل العدو في اختراق الجسم التنظيمي لحماس التي نجحت بإعداده بسرية تامة بعيداً من أعين المخابرات الإسرائيلية وجميع وسائلها وتقنياتها التجسسية بما في ذلك الأقمار الاصطناعية.
لقد كشفت عملية «طوفان الأقصى» هشاشة البنية القتالية للعدو الإسرائيلي، حيث تمكن مقاتلو المقاومة الفلسطينية من السيطرة على 25 مستوطنة وأحد عشر معسكراً للعدو في غلاف غزة وقتل المئات وأسر العشرات، في ظل ارتباك في القيادة العسكرية الإسرائيلية وحكومة نتنياهو اليمينية التي لم تستفق من الصدمة إلّا بعد ساعات على بدء عملية «طوفان الأقصى»، وهم ما زالوا يتبادلون الإتهامات بحق بعضهم البعض على ما ظهرت عليه قوات العدو من ذل وخذلان. وهكذا كشفت هذه العملية زيف ما اشتهر به جيش العدو بأنه الجيش الذي لا يقهر.
وعلى صعيد آخر، وقد أصبحت العملية في يومها الرابع ينكشف بوضوح خواء شعار وحدة الساحات حيث يواصل المقاومون الفلسطينيون القتال والمجابهات مع قوات العدو، والتصدي لقصفه العنيف وغير المسبوق للأبنية السكنية داخل قطاع غزة، وحيث تمكّنت صواريخ «حماس» من استهداف تل أبيب ومطار بن غوريون وكذلك محيط مدينة القدس، نرى أنّ محور الممانعة وإيران وأذرعها لم يحرّكوا ساكناً، ولم نسمع منهم سوى التصريحات والتوعّدات. وأحبّذ طبعاً عملية عسكرية تحريرية شاملة، وليس تحريكية تكتكية كما عرفناها لمدة 75 عاماً خلت، تنخرط فيها جميع المحاور التي تدّعي حرصها على تحرير القدس بما في ذلك إيران وأذرعها، والتي كان يجب أن تواكب عملية «طوفان الأقصى» منذ لحظاتها الأولى، برمي مخزوناتها من مئات ألوف الصواريخ والطائرات المسيرة على الكيان، فيتحقق بذلك الوعد بالتحرير الفعلي للأقصى وكل فلسطين. أمّا وأن هذا الأمر لم يحصل ولا أعتقد أنّه سيحصل على ما يبدو من سير الأحداث، فإنني أقف بقوة إلى جانب جميع المحذرين من مغبة إدخال لبنان في أي مغامرة عسكرية يكون الغرض منها فقط تحسين شروط هذا الفريق أو ذاك محلياً أو إقليمياً في التفاوض مع العدو أو مع رعاته الأميركيين.
وفي حالة لبنان الراهنة أرى أنّ أفضل موقف تضامني مع الشعب الفلسطيني هو في حفظ أمن لبنان، وفي الذهاب إلى انتخاب رئيس للجمهورية يُجمع عليه معظم الأفرقاء اللبنانيين لإعادة تسيير عمل مؤسسات الدولة اللبنانية، والتوجه إلى عملية تعافٍ للوضعين السياسي والاقتصادي والتصدي للأزمات المعيشية والديموغرافية التي يعاني منها اللبنانيون. إنّ استعادة اللحمة الوطنية اللبنانية لمكونات المجتمع اللبناني المتنوعة طائفياً وسياسياً، تشكل قطعاً تحدياً مهماً لطبيعة نظام الكيان الصهيوني العنصرية والفاشية، وفي ذلك أكبر مصلحة للفلسطينيين في تقديم النموذج لإقامة دولة ديمقراطية تعددية على كامل تراب فلسطين يعيش فيها اليهود والمسيحيون والمسلمون على حدٍ سواء.
كما يمكن أن يترجم التضامن الفعلي مع الثوار الفلسطينيين الأبطال في مواجهة العدو الإسرائيلي وفي مواجهة الأميركي والبريطاني والغربي بشكل عام الذين يدعمون العدو من دون حساب، بالدعوة إلى مقاطعة عربية شاملة لسلع ومنتجات تلك البلدان. وما تجدر الإشارة إليه، هو خطورة ما ورد في بيان «حماس» بتوعدها توسيع عمليتها من القطاع الغربي في لبنان! ونسأل لماذا لبنان؟ اللبنانيون يتعاطفون معكم ويدعمونكم ويحيون نضالكم وانجازاتكم داخل الأراضي الفلسطينبة، والتي يجب أن ينحصر قتالكم بداخلها. وحتماً سوف تخسرون هذا التضامن من اللبنانيين ومن غيرهم عندما تنظرون إلى استباحة السيادة اللبنانية أو سيادة أي دولة أخرى بحجة مقاتلتكم للعدو الإسرائيلي. وإنّ ما قامت به مجموعة من «سرايا القدس» ترجمة لهذا التوعد بمحاولة التسلل من حدود لبنان الجنوبية والتي ردت عليها قوات العدو، ما أدى إلى استشهاد عناصر من «حزب الله» بسببها، أمر خطير جداً.
وعليه، الجيش اللبناني مدعوّ إلى تفعيل حضوره على طول الحدود الجنوبية لردع مثل هذه الأعمال ومنع تكرارها، لتفادي توريط لبنان بما لا طاقة له على تحمله، وبما لن يكون له أي ثأثير جدي في مجرى العمليات على أرض فلسطين.