Site icon IMLebanon

«طوفان الأقصى» أحيا دور «الهاغانا» في ذاكرة الاسرائيليين!

 

ما من شك في أنّ عملية «طوفان الأقصى» التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية صباح السبت الماضي في الداخل أدت الى سيل من القراءات المتعددة الوجوه بما فيها تلك الخاصة بكل أشكال «حرب العصابات» التي عرفها التاريخان المعاصر والحديث عَدا ما هو جديد. وعليه، فإن ما جرى في مستوطنات غلاف غزة أحيا في اذهان اليهود المعمّرين ما قامت به منظمة «الهاغانا» في غزوها القرى الفلسطينية الآمنة و»تهجيرها». وعليه، كيف السبيل الى شرح هذه المعادلة؟

لا تتسِع مجموعة من الصفحات لما تحتمله عملية «طوفان الأقصى» من معاينات لكل ما سبقها ورافقها وتلاها وما يمكن ان تؤدي إليه من جديد مُحتمل، وهي التي وضعت بعد ساعات قليلة على انطلاقتها على طاولة البحث في عدد من مراكز الدراسات الاستراتيجية في المنطقة والعالم. وكل ذلك من اجل تشريحها بمختلف وجوهها بعدما فتحت الآفاق واسعة امام عدد من السيناريوهات التي تستحق التوقف عندها وتحليلها قياساً على كل واقعة من وقائعها في توقيتها وشكلها في انتظار ما يمكن أن تقود إليه من متغيرات مضافة الى ما حملته من مفاجآت لا يمكن أن تحصى بسهولة وفي وقت قريب.

في توقيتها اولاً، فقد أحيت العملية بفرادتها لمجرد اختيار 7 تشرين الأول عام 2023 ساعة الصفر لإطلاقها، ذكرى مرور خمسين عاما ويوما واحدا على «حرب أكتوبر» أو «حرب العاشر من رمضان» كما تعرف في مصر، أو «حرب تشرين التحريرية» كما تعرف في سوريا، أو حرب «يوم الغفران» أو «ميلخمت يوم كيبور» بالعبرية كما تعرف في إسرائيل. وهي الحرب التي شنتها مصر وسوريا في وقت واحد على إسرائيل عام 1973 واستعادت فيها الدولتان بعضاً من أراضيهما المحتلة في شبه جزيرة سيناء والجولان. فاحتسبت يومها بـ «خامس الحروب العربية – الإسرائيلية» بعد مسلسل حروب 1948 «حرب فلسطين» وحرب 1956 «حرب السويس» وحرب 1967 «حرب الأيام الستة» وحرب السنوات الثلاثة «1967-1970» التي عُرفت بـ»حرب الاستنزاف».

اما في شكلها ثانياً، فقد تعددت الاوصاف الجديدة التي أغدقت على مختلف أشكال المواجهات الفلسطينية ـ الاسرائيلية البينية التي شهدتها غزة والضفة الغربية ومناطق الـ 48 والتي تكررت في السنوات الماضية، بحيث انها لم تحمل اي وجه من وجوهها السابقة من حيث مسرحها اولاً، فهي المرة الاولى التي تجري فيها المعارك على أراض فلسطينية محتلة سبق أن احتلتها اسرائيل في مسلسل الحروب منذ عام 1948. كما هي المرة الأولى التي بادرَ فيها الفلسطينيون الى الهجوم بدلاً من الدفاع في عملية ناجحة بعد مجموعة من المحاولات الفاشلة بعدما عدلت جذريا في الأساليب التي اعتمدت في حينه الى ما هو أفعل وأمضى.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد ظهرت المتغيّرات باستخدام العملية الجديدة المظليين للمرة الاولى، التي أقلعت في وضح النهار محمّلة بالاسلحة الرشاشة من أماكن سهلية مكشوفة وعبرت أجواء المستوطنات الاسرائيلية من دون أن تعترضها أي وسيلة مراقبة اسرائيلية ولمسافات تمتد بعمق كيلومترات عدة، الى جانب استخدامها السيارات الرباعية الدفع عدا عن قوات النخبة البحرية. وكل ذلك جرى بدلاً من استخدامها شبكة الأنفاق التي بَنتها طوال سنوات عدة في السر في آخر العمليات الفاشلة التي جرت العام 2014، والتي هدفت الى خرق الغلاف الغزّاوي وانتهت بردم البعض منها بعد اكتشاف بواباتها المموّهة على مقربة من خطوطها الدفاعية واخرى في عمق المناطق المحتلة. وهي العملية التي سمّاها الفلسطينيون بـ»العصف المأكول» فيما سَمّت اسرائيل العملية التي أطلقتها لمواجهتها بـ»الرصاص المصبوب». واستمرت 51 يوماً امتدت من 7 تموز الى 26 آب 2014.

كما استخدمت وحداتها تكتيكا جديدا نجحت من خلاله بتوفير المعابر الآمنة للمقاتلين للخروج من المناطق المحاصرة في غزة الى ما عُرف بغلافها الاسرائيلي المحصّن وبالعكس بكل أجهزة المراقبة وأسقطت كل اشكال الخطوط الدفاعية، بما فيها من تحصينات عسكرية وتقنية تباهَت بها لسنوات عدة لجهة ما وَفّرته من قدرة على مراقبة وكشف اي شيء متحرك يمكن أن يقترب من هذه الخطوط، بما أحيا الذاكرة بخَرق الجيش المصري خط بارليف في سيناء. وقد ادّعت إحدى المجندات الاسرائيليات التي كانت تعمل في مركز للمراقبة قبل يومين عبر وسائل التواصل الاجتماعي بأنها كانت قادرة على مراقبة أي جسم يقترب من بوابات الحصار والجدارَين الاسمنتي والالكتروني إلى درجة انها كانت تحصي فيها حركة «الصراصير». فيما سمحت العملية هذه المرة باستخدام جرّافة صنعت في منتصف القرن الماضي لإزالة البوابة الالكترونية قبل أن تنطلق عبرها الوحدات البرية في اتجاه المستوطنات في 21 نقطة.

ومن يستفيض في تحليل هذه العملية لا يمكنه أن يتجاهل ما كشفه مسؤول حركة «حماس» في بيروت علي بَركة الذي كشف قبل ظهر امس ان عملية «طوفان الاقصى» كانت عملية «حمساوية مئة في المئة»، وقد نجحت «حماس» بالتخطيط لها بكل تفاصيلها، وأدَقّ ما هَدفت اليه من عناصر الصدمة والمفاجأة في الداخل الفلسطيني والاقليم والخارج. وقد يكون الاهم في ما كشَفه بَركة أنها حافظت على سريتها حتى الساعة صفر منها، وبعدما تم تحضير مستلزماتها العسكرية والامنية والاعلامية والتحسب لردات الفعل الاسرائيلية المحتملة على قطاع غزة ومن دون ان تُطلع أياً من حلفائها وأصدقائها عليها في اشارة لنفي اي محاولة أو مسعى للإفادة منها واستثمارها وصرفها في خانة هذه القوة الإقليمية او تلك.

وعليه، لا يمكن لأي مرجع ديبلوماسي أو عسكري سوى ان يتوقف امام هذه النقطة الحساسة في ظل ما كشف من وجود عملاء في أرقى صفوف المسؤولين فيها، فقد تكون هذه «السرية» المطلقة التي تم الحفاظ عليها من أبرز نقاط القوة التي سمحت بإطلاقها، وخصوصا لجهة ما حققته من عناصر الصدمة والمفاجأة ليس على المستوى الإسرائيلي فحسب، إنما على مستوى المنطقة والعالم. ذلك انها المرة الاولى التي تحقق فيها مثل هذه العملية نتائجها الأولية المقدرة لها وما حققته من إنجازات في الساعات الاولى منها قبل ان تبدأ الترددات الهائلة التي انعكست على مختلف وجوه حياة الاسرائيليين اليومية على مساحة الدولة ومؤسساتها بطريقة انعكست على المقيمين فيها أيضاً بفِعل إقفال مطار بن غوريون لفترات عدا عما أحيطت به من مخاطر، فانطلقت الوفود الاجنبية في اتجاه جسر الملك حسين في طريقهم الى المطارات الاردنية للعودة إلى بلدانهم.

وختاماً، مهما قيل في هذه العملية فإن هناك ملاحظة حساسة ودقيقة توقف عندها أحد الديبلوماسيين المُحنّكين الكبار الذي ربط بين منظرين «تاريخي» و»آني» يختصر مسافة تمتد لقرن تقريباً. فقد ربطَ بين منظر الفارّين من المستوطنات في اتجاه مناطق آمنة ومنظر التهجير الفلسطيني منذ أن أنشئت منظمة «الهاغانا» اليهودية بعد «وعد بلفور» وابّان الإنتداب البريطاني وبعده وصولاً الى ما ارتكبته من مجازر عام 48 وما تلاها، كما شكلت طريقة تعاطي «حماس» مع الاسرى الاسرائيليين «ترجمة فورية» لطريقة تعاطي الجيش الاسرائيلي مع الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة طوال الأعوام الماضية وهي مناظر ستحفر عميقاً في العقل الاسرائيلي وتؤثر فيه، وخصوصاً كبار السن منهم والمسؤولين الجدد قبل أي عقل آخر.