فتحت الاستطلاعات الانتخابية الأخيرة للتيار الوطني الحر الباب مجدداً أمام النقاش الانتخابيّ النيابي، وأخرجت إلى العلن استطلاعات أشمل أجرتها مراكز، متعددة وأحياناً متناقضة، لكنها تقود جميعها إلى النتائج نفسها تقريباً، وفي خلاصتها ما يستوجب التوقف عنده
اقتصرت الاستطلاعات الانتخابية الأخيرة للتيار الوطني الحر على تخيير المستطلعين بين مجموعة أسماء عونية فقط. وفي أقضية عدة، لم يكن أمام المستطلعين سوى خيار واحد بحكم وجود مرشح عونيّ واحد لمقعد واحد.
فالمرشح غسان عطاالله، مثلاً، كان ينافس نفسه على المقعد الكاثوليكي في الشوف، ومثله المرشح أسعد درغام عن المقعد الأرثوذكسي في عكار، والوزير الياس بوصعب عن المقعد الأرثوذكسي في المتن، والمرشح طوني ماروني عن المقعد الماروني في طرابلس وغيرهم. أهمية المرحلة الثانية من مسيرة اختيار المرشحين العونيين تكمن في توضيح الصورة قليلاً، حيث توجد زحمة مرشحين على مقعد واحد، كما هي حال المقاعد المارونية في بعبدا والمتن وكسروان وجبيل.
وباستثناء عكار، حيث تعرض المرشح العونيّ الجديّ جيمي جبور لانتكاسة صغيرة أمام مرشح مغمور، يمكن القول إن الاستطلاع العوني أنصف كل من جدّ في العمل، وأظهر في المقابل هشاشة من يستقوون بالمال والإعلام والعلاقات الجانبية. إلا أن الأهم من نتائج الاستطلاعات هو التحريك العوني المتواصل للركود السياسي وتسليط الأضواء على الواقع الانتخابي في أقضية عدة قبل أشهر من الموعد المفترض للانتخابات النيابية.
ففي بعبدا، اليوم، ثمة خلاصة وحيدة تفيد بعدم وجود أي مرشح أو قوة أو حزب قادر على تجيير عشرة في المئة على الأقل من أصوات المقترعين المسيحيين لأي لائحة أخرى غير تلك المدعومة من رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر والقوات اللبنانية. وهو أمر سيحرج حزب الله، عاجلاً أو آجلاً، في حال قرر البحث عن مخارج جانبية تجنّبه التصويت لمرشحي القوات. واللافت في هذا القضاء الذي يتمثل بستة نواب (ثلاثة موارنة وشيعيان ودرزي)، هو عدم وجود مرشحين. أما في كسروان، حيث يفترض كثيرون أن الثنائية المسيحية، مدعومة من رئاسة الجمهورية، ستأكل الأخضر واليابس، فلا شيء من هذا كله. فخلال الدورتين السابقتين، شكّل ترشيح العماد ميشال عون شخصياً رافعة للائحة العونية، وهو حرص على استرضاء بيوتات سياسية عدة بتبني مرشحيها التقليديين، فيما كان حضور القوات في صناديق القضاء متواضعاً جداً. أما اليوم فلا رافعة مباشرة للائحة مع بلوغ «عنترات» بعض العونيين حد التشاطر على العميد شامل روكز، وسيضطر التيار إلى الاستغناء عن ممثلي العائلات الأقوياء بمرشحين أقل حضوراًَ، سواء كانوا عونيين أو قواتيين، علماً بأن النائبة جيلبرت زوين، مثلاً، تحظى بتأييد 90 في المئة من عائلتها، وهؤلاء يمثّلون في صناديق الاقتراع ضعف القواتيين تقريباً. وخلافاً لبعبدا التي ترفع فاعلياتها الرايات البيض، يعمل النائب السابق فريد هيكل الخازن، للمرة الأولى، في دائرته بذهنية انتخابية حديثة بعيداً عن «مراجل» الإقطاع التقليديّ، إذ كلف الشركة نفسها التي أدارت ماكينة التيار في استحقاقات انتخابية سابقة تنظيم حملته الانتخابية واستحداث الماكينة ومتابعة التفاصيل. وحال الخازن في كسروان من حال رئيسة الكتلة الشعبية في زحلة ميريام سكاف. فالأخيرة شرعت في تنظيم الماكينة مع الشركة نفسها التي نظمت عمل ماكينتي التيار والقوات في الانتخابات البلدية الأخيرة. إلا أن إمكانيات سكاف، شأنها شأن الخازن، محدودة. وهي قادرة على مواجهة القوات اللبنانية، ولكن ليس القوات والمستقبل والتيار ورئاسة الجمهورية وحركة أمل والمطران عصام درويش وحزب الله وآل فتوش الذين لا تشغلهم القوات ولا الكتائب ولا المستقبل عن إضعاف الكتلة الشعبية.
فريد هيكل الخازن وسكاف بدآ بتنظيم ماكينتيهما الانتخابيتين
أما المتن الشمالي، فمعالم ما ينتظره أوضح بكثير: تقدم النائب ابراهيم كنعان بعيد تطريزه تفاهم التيار والقوات نقاطاً عدة، فيما تراجع النائب سامي الجميل قليلاً. إلا أنهما لا يزالان قريبين جداً بعضهما من بعض في الصدارة، ويليهما بفارق كبير كل من النائب ميشال المر والوزير الياس بوصعب اللذين تبدو نتيجة كل منهما في غالبية الاستطلاعات متقاربة جداً أيضاً، علماً بأن المر يستند إلى قاعدة راسخة تتمثل برؤساء المجالس البلدية والمخاتير وعدد كبير من الموظفين، فيما قاعدة بوصعب ترتكز على حضوره الإعلامي وأدائه المؤثر بالرأي العام. وتشير المعلومات إلى أن ثنائية الجميل ــــ المرّ باتت تفتقر إلى دينامو لائحتهما المالي المرشح سركيس سركيس الذي لن يخوض الاستحقاق ما لم ينجح رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في تأمين مقعد له على لائحة العونيين. ولا شك أن الكتائب والمر كانا يخططان لتعويض خساراتهما المتفرقة بتفاهم واضح مع الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي عانى دورتين متتاليتين من تشطيب عوني لمرشحه واستبداله بالنائب بيار الجميل، ثم سامي الجميل، فيما بدأ كنعان تواصلاً جدياً مع القوميين لقطع الطريق باكراً على الجميل والمر.
والجدير التوقف عنده في دراسة جدية أجرتها مؤسسة خاصة موثوق بها أن 53% ممن استطلعتهم اختاروا «لا أحد» حين سألتهم عن مرشحهم المفضل عن المقعد الماروني، مقابل 12.7 سموا كنعان ونحو 8% سموا الجميل.
وفي استطلاع انتخابي مفصل آخر يمكن استخلاص دلالات كثيرة. فنحو 61% ممن سموّا مرشح القوات إدي أبي اللمع أول، قالوا إن النائب سامي الجميل هو مرشحهم الثاني، ما يعني أن القواتيين لا يزالون يفضلون الكتائب على غيرهم رغم العلاقة الملتبسة بين الطرفين. في المقابل، فإن نسبة من سموا أبي اللمع مرشحاً ثانياً لدى العونيين أكثر بقليل ممن سموا الجميل، ما يعني أن من شطبوا مرشح القومي في استحقاقات سابقة لإحلال الجميل محله، سيوزعون أصواتهم هذه المرة بين الجميل وأبي اللمع، ما من شأنه إضعاف الجميل أكثر. ولدى مناصري الكتائب يتبين أن كنعان هو المرشح المفضل الثاني بعد الجميل، يليه أبي اللمع، ما يعني أن مساهمة كنعان في تفاهم الرابية ومعراب لم تستفز الكتائبيين كما يتخيل كثيرون. وفي الدراسة نفسها، يتبين أن كنعان بات يتقدم على الجميل بفارق مهم وسط المستطلعين الذين يرفضون الكشف عن توجههم السياسي، وهؤلاء كانوا يجاهرون سابقاً بتأييد الجميل.
أما جبيل فحالها، في الشكل، من حال بعبدا مع فارق رئيسي يتمثل بوجود أكثر من مرشح جدي محتمل في حال قررت الثنائية الشيعية وتيار المستقبل كبح جماح الثنائي المسيحي الجديد، فيما تتطابق الأشرفية، في الشكل والمضمون، مع بعبدا باستثناء وجود بعض الجمر تحت الرماد الذي لا يجد ما يعوّل عليه غير مجتمع مدنيّ لا يعرف ماذا يريد. والخلاصة اليوم تفيد بأن الثنائية المسيحية قوية، ويزيدها قوة التحالف مع رئيس الجمهورية. إلا أن هناك في دوائر عدة من يرفض رفع الرايات البيض ويستعد لمزاحمتها. لكن معالم المعركة يحددها الموقف النهائي لتيار المستقبل وحزب الله وحركة أمل، وخصوصاً أن تعامل هؤلاء مع تشكيل الحكومة يبيّن تسليمهم بتمثيل التيار والقوات للمسيحيين وحرصهم في نهاية الأمر على عدم إقلاق راحتهم بأي اسم قد يسبب إزعاجاً لهم.