يعدّ «اللقاء المشرقي» لعقد مؤتمره الدولي في نسخته الأولى في بيروت منتصف تشرين الأول ٢٠١٩، برعاية وحضور رئيس الجمهورية، ومشاركة عدد من الشخصيات اللبنانية والعربية والدولية، تحت عنوان «لقاء صلاة فطور، الحوار نهج وطريق سلام، عن إشكاليات التعددية والحريات».
ويقوم المؤتمر على أساس استنساخ تقليديْن سنويين تنظمهما الإدارة الأميركية، ذلك انّ «صلاة الفطور» هو فطور رئاسي يشارك فيه الرئيس الأميركي مع شخصيات من دول العالم المختلفة ويكون منصّة للعلاقات العامة والتواصل، وتُناقش فيها أفكار متعددة. امّا «الحوار نهج وطريق السلام والبحث في إشكالية التعددية والحريات» فهو مؤتمر يدعو إليه وزير الخارجية الأميركي تحت عنوان حرية وحوار الأديان.
وقد تأسست جمعيّة «اللقاء المشرقي» عام ٢٠١٧ بموجب بيان «علم وخبر» صادر عن وزارة الداخلية والبلديات تحت الرقم ١٢٤٧، وغايتها ضمان توازن الجماعات والمشاركة في النظام والدولة والحكم والسلطات والادارات الى الحفاظ على هوية المسيحيين، مروراً بالحفاظ على الدور والوجود المشرقي ديمغرافياً وجغرافياً من ضمن مسلّمة العيش المشترك. واعضاء هذه الجمعية التي يرأسها الوزير جبران باسيل هم شخصيات قريبة منه ومن رئيس الجمهورية، ولديهم توجّهات داعمة لقيام حلف للأقليات وخصوصاً المسيحية منها، وكانوا يشكّلون «خلية السبت» التي كان يلتقيها العماد ميشال عون صبيحة كل يوم سبت في الرابية قبل انتخابه.
ويبدو الهدف المُعلن من هذا المؤتمر إظهار دور المسيحيين في لبنان وتكريس انعقاد هذا الحدث سنوياً باعتباره ساحة لتلاقي الأديان والأفكار، وأرضيّة جيّدة للحوار بين الحضارات والثقافات. وربّما أراد المنظّمون دغدغة آذان الدول الغربية، الّا ان الوقائع الملموسة تبيّن أنّ روسيا، تُعطي الأولويّة لمصالحها وليس لحماية الأقليّات المسيحيّة في الشرق، شأنها شأن الولايات المتحدة الأميركية.
لكنّ باطن المؤتمر يوحي بإطلاق تحالف الاقليّات تحت شعارات متعددة، الأمر الذي أعلنه الوزير باسيل من موسكو في شهر آذار عندما تحدّث عن تحالف مشرقي، وبالتالي، لا ينفصل عنوان المؤتمر أو طروحاته عن مواقف أعضاء «اللقاء» المتعلّقة بضرورة حماية الأقليات، والمسيحيين خصوصاً، والحصول على الدور السياسي والتأثير الذي يطمحون إليه في هذه المنطقة، على غرار الخطاب «الباسيلي» في «استعادة حقوق المسيحيين» في لبنان باعتبار ان هذا التحالف هو «الضامن» لوجودهم و«المعطّل» لهيمنة الأكثرية السنّية، التي يزعم الوزير باسيل انّها «سلبت» حقوق المسيحيين بموجب «اتفاق الطائف» عندما قال: «السنيّة السياسية أتت على جثة المارونية وسلبت كل حقوقها ومكتسباتها، ونحن نريد استعادتها منهم بشكل كامل».
أقليات المنطقة لديها طابع ديني مذهبي وعقائدي وعرقي، وتحديداً اليهود الصهاينة، الامر الذي يؤدي الى اعتبار دولة «إسرائيل» الدينيّة في عمق النظرية والمشروع والتوجهات «الاقلّوية»، ويُطلق مبدأ عدم الخلاف الأيديولوجي مع «إسرائيل» وتكريس حقها في العيش بسلام في المنطقة من دون أن تعتدي على أحد، وهو ما ادلى به الوزير باسيل في مقابلة على شاشة «الميادين» ضمن برنامج «حوار الساعة» في كانون الأول عام ٢٠١٧.
ومن هنا تتجلّى خطورة المؤتمر في وضعه مسيحيي لبنان في تصنيف مشابه لـ«الأقليات» الذين يعانون من ازمة اضطراب في الهوية والمصير في ظلّ الاضطهاد والتمييز العرقي والطائفي والمذهبي، وكأن ثمّة من يؤسس لمرحلة مُقبلة يُطالب فيها بحق المسيحيين اللبنانيين في تقرير مصيرهم من خلال كانتونات او دويلات او على شكل كونفدرالية، أو بالحكم الذاتي من خلال صيغة «الفيديرالية» التي تهدف الى قيامة «وطن قومي مسيحي» منفصل عن المسلمين، كما عبّر عنها الرئيس عون عام ٢٠١٥، ولفت إليه الوزير باسيل حين قال «لا يهددنا أحد بالعد لأننا نحن لنا خياراتنا ايضاً».
والحديث عن تحالف بين الأقليات المسيحيّة والشيعيّة والعلويّة والدرزيّة في لبنان والمنطقة يعني التكتّل ضد أكثريّة سنّية، ممّا يعني الانزلاق تلقائياً نحو انقسام طائفي ومذهبي بغيض يُغذّي الصراع القائم ويُعمّقه، وهو ما يناقض روحيّة اتفاق «الطائف» في الحفاظ على العيش المشترك بين اللبنانيين. ولكن الحقيقة الديمغرافية بأنّ السنّة يُشكّلون ٧٥ في المئة من العالمين العربي والإسلامي، وثلث الشعب اللبناني، تجعل أيّ صراع مذهبيّ فاقداً للتوازن وآيلاً إلى الفشل ولو بعد حين.
وفي هذا السياق نُذكّر ان البطريرك مار نصر الله بطرس صفير وقف بوجه مشروع تحالف الاقليات بخطابه اللبناني السيادي، لأنه كان يعي خطورة المشروع الذي استطاع التغلغل في البيئة المارونية اللبنانية التي كانت تاريخيًا عصيّة على هذا المنطق.
وقد برهنت الوقائع انّ مشروع «تحالف الأقليّات» على امتداد المنطقة، خاصة في سوريا والعراق، فشل في توفير الحماية لهذه الأقليّات وكبّدها الكثير من الخسائر، خصوصاً المسيحيين منها، وهو ما ينذر بفشل هكذا تحالف في لبنان. وفي المقابل تبرز حالات ناجحة في تاريخ لبنان انطلقت من أولويات وطنيّة تجمّع حولها اللبنانيون على اختلاف مذاهبهم وخارج معادلة الأكثريات والأقليات.
مثال على ذلك ما حصل عام ١٩١٥ عندما تحالف اللبنانيون ضد الاحتلال العثماني ومحاولة التطبيع، منطلقين من أولويتي الحرية والهوية. وعام ١٩٤٣ تحالف اللبنانيون من اجل استقلالهم وجلاء القوات الاجنبيّة عن ارضهم. ثم توحّدوا في الستينيات من اجل بناء الدولة ومؤسساتها وتطوير شؤونهم الاجتماعية والحياتية. وفي العام ١٩٨٩ جدّدوا عقدهم الوطني وخرجوا من سباق العدد الى ثابتتي الوطن النهائي والانتماء العربي. وبعد اغتيال الشهيد الرئيس رفيق الحريري، طالبوا بخروج الجيش السوري من لبنان انطلاقاً من مبادئ الحرية والسيادة والاستقلال والديموقراطية والحقيقة والعدالة.
هناك من يعتبر ان هدف هذا المؤتمر هو تأسيس منصّة دوليّة شرعيّة توظّف لاحقاً لدعم الوزير جبران باسيل في معركته لرئاسة الجمهورية، وقد يكون ذلك صحيحاً من المنظور الضّيق، لكن لا يُمكن فصل هذا المؤتمر عن التحوّلات الحاصلة في المنطقة، لا سيما مشروع «صفقة القرن» وملف ترسيم الحدود بين لبنان والكيان الصهيوني، واستعادة الرهاب من توطين الفلسطينيين، والمطالبة باستعادة «المبعدين» إلى الأراضي المحتلة؛ بل ينبغي الوقوف امام المشهد العام اللبناني والدولي وقراءته بكثير من التمعن.