الأرثوذكس يخوضون معركة «التهميش».. بِخلع عباءة الماضي
قد تكون غريبة لكثيرين هذه الهبّة الأرثوذكسية عالية النبرة التي خرج بها أخيرا أقطاب الطائفة تحت رعاية متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة.
مرد الغرابة لا يتأتى من الأسباب التي دفعت هؤلاء الى رفع الصوت ومعه نبرة التحدي إحتجاجا على ما رأوه إجحافا بحق الطائفة في التعيينات التي تخصها. فالأسباب غير ذات أهمية وقد تكون الطائفة محقة في تبرّمها في ما اعتبرته افتئاتاً عليها طالما أن العرف الطائفي يفرض استشارتها في ذلك عبر بروتوكول يطال الطوائف كافة.
لكن التوقف هنا مرده انضمام تلك الطائفة الى نادي «المشاغبين» على اللاعبين الآخرين لتحصيل مكاسب سلطوية لم تُعرف الطائفة بنهمها لها، وذلك بعد أن نالت حصة وازنة منها حتى الأمس القريب وخاصة في حقبة عرفت خلالها الطائفة المسيحية في شكل عام غبناً كبيراً في زمن «الإحباط المسيحي» خلال الحقبة السورية في لبنان بدت الطائفة الأرثوذكسية بعيدة عنه.
عراقة غير طائفية
كانت تلك الحقبة الذهبية للطائفة التي خرّجت في العصور السياسية البعيدة والقريبة شخصيات مرموقة لبنانية وفلسطينية وعربية حفرت أسماءها في تاريخ المنطقة وتناثرت بين اليسار الراديكالي وصولاً الى اليمين المتطرف.. من دون نسيان أن رئيس الجمهورية اللبناني الأول شارل دباس خرج من صفوفها ليعتلي هذا المنصب في العام 1926، وتبعه بترو طراد لفترة وجيزة في العام 1943.
على أن أهمية تلك الطائفة التي رفدت لبنان والمشرق بعدد نوعي من القامات السياسية والفنية والثقافية، تمثلت في سلميتها وعدم انغماسها في قتال طائفي وتأسيس الميليشيات المسلحة، كما أنها لم تعرف ارتباطا خارجيا وثيقا كما هو الحال مع طوائف أخرى. وكانت المفارقة أن الطائفة الرابعة من حيث العدد في لبنان والثانية مسيحياً، قد قبضت الثمن غالياً في زمن السلم الأهلي برغم أنها لم تخض معركة عسكرية على الارض لذلك. وفي التسعينيات سُمي القطب السياسي فيها ميشال المر بـ»صانع الرؤساء»، لا بل أنه كان يردد دائماً أن موقعه نائبا لرئيس الحكومة يتأتى من كونه الأرفع للطائفة ملمحاً الى أحقيته بما هو أكبر.
وكان القطب الآخر للطائفة هو إيلي الفرزلي الذي حل نائبا لرئيس مجلس النواب والذي بدا كطائر الفينيق الذي بُعث بعد زمن تغيّرت معه ملامح القوى وبعض اصطفافاتها بينما استطاع الفرزلي مقارعة الأزمنة والشخصيات.
وبالطبع، تمثلت الرعاية الدينية للطائفة عبر المطران الياس عودة الذي كان يُطل بين الحين والآخر مطلقاً خطبه النارية في وجه المسؤولين الغافلين عن حرمان الشعب ومظلوميته فكان يُعبر بها عن مكنونات اللبنانيين.
هل بات شبيب من الماضي؟
اليوم، تجد الطائفة نفسها في موقع الدفاع. هو موقف ربما بات عليها التعايش معه، لكن الصرخة التي أُطلقت من دار المطرانية قبل فترة كان مدوياً. وكان من الطبيعي أن تذهب المخاوف في اتجاه التعرض الى حرب إلغاء مكشوفة. ربما يشكل هذا العنوان عدّة المعركة عبر رفع السقف واستدرار العطف، ولكن المناسبة تتمثل في تهميش الموقف الديني للطائفة كما عدم استشارة قياداتها في التعيينات التي تخص الطائفة.
على أن كأس الاعتراض فاض مع نيّة الحكومة استبدال محافظ بيروت الأرثوذكسي زياد شبيب. يتهم هؤلاء رئيس الحكومة حسان دياب بالرغبة في الإتيان بإحدى المقربات منه الى المنصب هي بيترا خوري التي يشير البعض الى أنها حاصلة على تقاطع سياسي مع رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، علماً أن أسماء أخرى قد ترددت بين الأروقة هي القضاة زياد مكنّا ووهيب دورة وإيلي معلوف، بينما يطالب البعض في الحراك الشعبي بالقاضي مروان عبود.
اللافت في الأمر يتمثل في الدفاع الشرس عن القاضي شبيب الذي تنتهي ولاية السنوات الست له محافظاً في 19 الشهر الحالي. كما أن شبيب، الذي يعتصم بالصمت ويفضل التكتم على الوساطات التي تدور حثيثة لإبقائه في منصبه ويكتفي بإبداء انزعاجه من الاجواء المرافقة لقضيته، يتعرض لهجوم من قبل الحراك الشعبي وصلت الى رفع دعوى عليه أمام النيابة العامة المالية والتفتيش المركزي وديوان المحاسبة.
وبينما يتهم المدافعون عن شبيب مهاجميه بالولاء لرئيس بلدية بيروت جمال عيتاني، ويستغربون ظهور ملفات فساد بين ليلة وضحاها، يشدد أحد رافعَي الدعوى على محافظ بيروت المحامي علي عباس لـ«اللواء» الذي اشترك في تلك الدعوى مع المحامي واصف الحركة، على أن عيتاني مشمول هو الآخر بارتكاب المخالفات. ويلفت الى أن الدعوى تتعلق بهدر وتبديد المال في بلدية بيروت وإخلال بالواجبات الوظيفية لأهداف ومكاسب خاصة إضافة الى اختلاس للأموال العامة «يعمل المحافظ على إخفاء آثارها».
وبغض النظر عن أداء شبيب الذي ينفي تلك الشبهات جملة وتفصيلاً، فإن شكاوى أخرى تنتظره حتى مع مغادرته منصبه ليعود الى وظيفته في القضاء، وتشير مصادر مطلعة محيطة بالملف الى أن موضوع بقاء محافظ بيروت بات من الماضي وهو يعلم ذلك تماماً مثلما يعلمه عودة الذي تجاوز الأمر ولو على مضض. وفي اجتماعه مع رئيس الجمهورية ميشال عون أمس كان واضحا هذا المنحى الذي لا يتمسك بشبيب في الوقت الذي تم طرح أسماء بديلة في جو ودي، لكن من دون البت فيها.
«سنخوض المعركة حتى النهاية»
في كل الأحوال، يبدو أن شبيب كان آخر حلقة في سلسلة من «إستهدافات» ترى الطائفة ومطرانيتها أنها ضحيتها. والحال أن أركاناً في الطائفة قد اشتكوا منذ مدة بأنهم يتعرضون لمحاولات تطويق وعزل، لكن الواقع يشير الى أن متغيرات تطرأ على البلاد عكست نفسها على الطائفة وأفرزت وجوهاً جديدة تدور في فلك أحزاب وتيارات كبرى.
واليوم، تظفر الطائفة بعدد مقبول من النواب بلغ 14 نائباً كما حصلت على حقيبة سيادية ناهيك عن مراكز هامة في إدارات الدولة بعد اتفاق الطائف. لكن القضية بالنسبة الى بعض أركان الطائفة تتمثل في هوية من يختار ممثليها، ويخشى هؤلاء أن يتم سحب البساط من تحت أقدامهم ولذلك كان رفع شعار «أننا لن نقبل بقضم حقوقنا».
وكان الصوت السياسي الأبرز من داخل الطائفة الذي أطلق النداء للعدالة أسوة بباقي الطوائف هو نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي الذي يؤكد لـ«اللواء» أنه معني أكيد بحقوق الطائفة في ظل النظام اللبناني. هو لا يود الوقوف عند مسألة وحيدة تتعلق بقضية محافظ بيروت، بل ينظر الى المشهد بكامله ويشير الى تلقي الوعود بإملاء الفراغات وتحقيق التوازن.
«لن يتمكن أحد من تهميشنا ونستطيع القتال في معركة استعادة الحقوق»، يقول القيادي في الطائفة الذي عايش مراحلها الهامة المختلفة منذ ما قبل استتباب السلم الأهلي. وبالنسبة الى رجل كالفرزلي، لن يكون هناك أي مجال دون تحصيل الحقوق «التي سننالها آجلاً أم عاجلاً».
وبرغم كل هذا الاعتراض، فإن البعض من داخل الطائفة يأسف أن يصل الحال الى خطاب كهذا، وإن كان الجو العام في البلاد يشير بسفور الى سعار طائفي ومذهبي بلغ ببعض المرجعيات السياسية والدينية الى الدفاع عن المتهمين بالفساد فيها واللجوء الى الدفاع الأعمى عن كل من توجه إليه ولو شبهات من هذا النوع للحفاظ على مكتسبات المرجعيات كافة.
وإذا كانت صرخة تهميش الطائفة في مراكز الدولة عدديا ونوعيا قد أُطلقت في اللقاء الأخير في دار المطرانية جامعة شخصيات يفترض قتالها ضد المسألة الطائفية مثل نائبي «الحزب السوري القومي الإجتماعي» أسعد حردان وسليم سعادة، فإن البعض في اللقاء يلقي باللوم على مسألة التراجع الديموغرافي للأرثوذكس ما يمنعهم من القيام بمسؤولياتهم على صعيد تلك الوظائف، ناهيك عن تعبئة تلك الفراغات وسط فراغ على هذا الصعيد، من دون نكران بُعد التهميش على هذا الصعيد لكن بلغة أكثر اعتدالاً.
وإزاء الوضع غير المقبول الذي تحدث به عودة في لقاءاته الأخيرة ومنه ذلك الذي جمعه مع عون، فإن هناك في الطائفة من يدعو الى تولية الملف للجهة المخولة به وهم وزراء الطائفة الذين يشير البعض الى تقصيرهم، بينما يُبعد آخرون عنهم تلك «التهمة» ومنهم الفرزلي الذي يشير الى أن الوزير ميشال نجار قد حاول جهده على هذا الصعيد.
في كل الأحوال، يبدو لسان حال مرجعيات الطائفة أنهم يرفعون شعار القتال للبقاء في صلب القرار، لكن في مقابل ذلك هناك من يحذر من التمادي في رفع شعارات مثل تلك، ذلك أن من شأن التمادي بها أن يؤجج خطاباً طائفياً البلاد في غنى عنه.