في لبنان كل شيء له انتماؤه الطائفي ولونه الطائفي واسمه الطائفي، فما بال الذين يتحدثون عن طائفة الوظيفة التي وردت في أبرز الرسائل المؤسسة للبنان الحديث في عهد الانتداب التي أرسلتها الحكومة اللبنانية الى المندوب السامي الفرنسي، وهي الرسالة السادسة والمكرر منها، وهو ما عرف بـ”6 و6 مكرر”، والتي تحدثت عن مراعاة العدالة في توزيع الوظائف على الطوائف والمناطق وذلك في مطلع ثلاثينات القرن الفائت.
صيغة لا تزال تتسيّد التعيينات الادارية وغيابها يولّد أزمة وهذا ما حصل مؤخراً على مستوى طائفة الروم الارثوذكس.
ونتيجة الاجتماعات ورفع الصوت جاء وعد رئيس الجمهورية ميشال عون للروم الأرثوذكس بأن يصار عند أول فرصة الى تعيين أول ستة مراكز شاغرة من الحصة المسيحية لمصلحة أبناء الطائفة على سبيل التعويض. صيغة هدّأت من روع الشخصيات السياسية التي رفعت الصوت وهي في طور ترقّب النتائج العملية التي انتجتها المساعي في هذا الاطار. ويبدو جلياً وجود اتجاه لمعالجة الخلل في التمثيل الارثوذكسي في الادارة بعدما وصلت الامور الى حد اعتبار البعض أن هذا العهد هو الأسوأ في التعاطي مع طائفة الروم الارثوذكس.
يقول شهود إن أهم ما حصل في اللقاء الأخير الذي جمع رئيس الجمهورية ومتروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران إلياس عودة هو مطالبة الأخير بدولة مدنية تضمن المساواة بين جميع مواطنيها. لعلها سابقة مطالبة رجل دين بدولة مدنية، أو ربما هو الإجحاف اللاحق بأبناء الطائفة، ما جعل المطران يجد في الدولة المدنية الخيار الأعدل. ولكن، إلى أن يتحقق المراد – الحلم، طالب المطران عودة رئيس الجمهورية بـ”رفع الغبن عن أبناء الطائفة الأرثوذكسية”، واضعاً ملف التعيينات الأرثوذكسية في عهدته.
شعور بالغبن
يشعر أبناء هذه الطائفة بالغبن اللاحق بهم في التعيينات الادارية. يتم التعاطي معهم على قاعدة “ما كان لي فهو لي وحدي، وما كان لك أتقاسمه معك”، عن قصد أو عن غير قصد. وحين أراد رئيس الحكومة حسان دياب إثبات ان حكومته “عابرة للطوائف”، لم يجد أمامه إلا مراكز الروم الارثوذكس ليعيّن بديلاً عنهم من طوائف أخرى. حصل ذلك في تعيين المفتش العام الاداري في التفتيش المركزي وكذلك في مركز رئيس ادارة الموظفين في مجلس الخدمة المدنية، وكاد أن يتم تطيير مركز محافظ بيروت مع اقتراح تعيين بترا خوري للمنصب (ارثوذكسية متزوجة من ماروني)، ومثل هذه الصيغة تستفز الطائفة وترى في التعيين جائزة ترضية لا تفي التمثيل الحقيقي.
وفق الترتيب الطائفي البغيض، تصنّف طائفة الروم الأرثوذكس رابعة في لبنان من حيث العدد. ورغم ذلك فحصص باقي الطوائف المسيحية وغير المسيحية من الوظائف تزيد عليها. وجاء تخصيص الحكومة مراكز محسوبة عُرفاً من الحصة الأرثوذكسية، للطائفة المارونية ليعزّز شعور الطائفة بالاستهداف. فالتعاطي معها ليس مشابهاً للتعاطي مع غيرها من الطوائف، ما دفع المطران عودة ومعه وزراء ونواب الطائفة إلى إعلان حركة احتجاجية.
لا يرى ممثلو هذه الطائفة من وزراء ونواب مبرّراً للغبن اللاحق بحصة طائفتهم “إذا كان الموارنة لهم مرجعيتهم الرئاسية، والشيعة لهم مرجعيتهم في الرئاسة الثانية والسنة لهم الرئاسة الثالثة، فلا يوجد للأرثوذكس من يمنحهم حقهم”. في ما يرتبط بمركز محافظ بيروت، القصة لم تتم مقاربتها من ناحية الأسماء وحسب، وانما بالمبدأ الذي يسري على تعيينات بقية الطوائف وهو التشاور مسبقاً بشأن أي تعيين مرتبط بالمراكز التي تعود عرفاً لهذه الطائفة، فضلاً عن حق الطائفة بالاحتفاط بهذا المركز من حصتها بدل تجييره لطائفة أخرى. عند مفاتحته بالموضوع، ردّ أحد الوزراء في الحكومة على محدّثه بالقول: هل تريدني أن أفتح مشكلة مع السنة او مع الشيعة في التعيينات؟ ما يعني أن الفكرة السائدة انه بالإمكان مد اليد على طائفة الروم الأرثوذكس اما بقية الطوائف فدونها محاذير.
يكشف متابعو الملف عن معلومات أظهرتها عملية مسح بسيطة لوظائف الدولة، أن التفتيش المركزي بمجمله خال من مركز للروم الارثوذكس، حتى مركز مديرية الشؤون المشتركة (فئة ثانية) في وزارة الداخلية شهد توجهاً لاستبدال الارثوذكسي بآخر من الطائفة السنية، والمركز لا يزال شاغراً بسبب الخلاف على التعيين.
كان مركز مدير المخابرات من حصة الارثوذكس (في عهد اميل لحود تم تعيين ميشال الرحباني) قبل ان يعود للموارنة. ومجلس الدفاع الاعلى خال من التمثيل الارثوذكسي، فضلاً عن غياب تمثيلهم في رؤساء المراكز والمكاتب في الامن العام في المناطق. يتساءل المتابعون: “إذا كانت الحكومة منحت مركز التفتيش للموارنة فلمَ لا تمنح مركز مدير التنظيم المدني للروم الارثوذكس كبديل عنه”؟. المطلوب بالنسبة إليهم تطبيق مبدأ المساواة، والوقائع مثبتة في سياق دراسة مفصلة عن وظائف الفئة الاولى والوظائف الاخرى الاساسية في الدولة التي تظهر مكامن الخلل في التمثيل الارثوذكسي. ولو ان الدراسة المعدة تحتاج وفق مطلعين عليها الى بعض التعديلات لوجود نقص في التمثيل لم يلحظه معدوها الا انها تقدم صورة عامة عن واقع التمثيل الارثوذكسي في الادارة العامة.
وفق هذه الدراسة تتوزع وظائف الفئة الاولى طائفياً كالآتي: 81 مركزاً للمسلمين، و72 مركزاً للمسيحيين مقسمة على النحو التالي: 44 مارونياً، 13 كاثوليكياً، 9 أرثوذكس، 3 أرمن ارثوذكس، و3 أقليات مسيحية. اي ان مجمل مراكز الروم الارثوذكس كان 11 مركزاً فصارت تسعة فقط. وبحصيلة عامة يوجد في الادارة اللبنانية 17 مركزاً للارثوذكس بين فئة اولى وفئات وظيفية اخرى لا تسند كلها لابناء الطائفة وفق المتعارف عليه. وتعتبر هذه الأرقام مصدر الخلل الأساسي الذي يجري العمل على معالجته مع تأكيد مراجع سياسية معنية بالملف أن الامر في طريقه الى المعالجة فعلاً.
الغبن يلحق بالطائفة في الوظائف الامنية، ففي الجيش لكل طائفة لواءان بينما للروم الارثوذكس لواء واحد، فضلاً عن عدم وجود مديرية عامة أمنية للارثوذكس (مدير عام سني للأمن الداخلي، وشيعي للأمن العام وكاثوليك لأمن الدولة)، كما تشير الى نقص التمثيل في القضاء والسلك الديبلوماسي ومجالس رؤساء الادارة. وفي وظائف الفئة الثانية هناك تمثيل ارثوذكسي في خمسة مراكز في الادارة من أصل 12 مركزاً. تفترض الدراسة ان يكون التمثيل الارثوذكسي 11 بالمئة في الادارة بينما هو يقتصر على 7 بالمئة فقط.
وبعد، لا يمكن للنظام الطائفي ان يعرف مبدأ العدالة طالما انه يقوم على المحاصصة، ولا يمكن للتوازنات الطائفية أن تتساكن مع الكفاءة، إذ غالباً ما تتم مراعاة التوازنات الطائفية على حساب الكفاءة، ومع ارتفاع الصراع والشكوى من قبل أبناء الروم الارثوذكس وبناء على المعطيات المتوافرة، هل يكون الحلّ بمزيد من الطائفية ؟ الجواب بالنفي طبعاً لكن إلى أن يسري الإلغاء على الجميع فتلغى المحاصصة من النفوس قبل النصوص.