يستوي النظام المجمعيّ في الكنيسة الأرثوذكسيّة على قاعدة ثابتة لا حياد عنها، وهي أنّ البطريرك رئيس للكنيسة وإن كان مجمعيًّا أوّلاً بين متساوين. فلا مجمع من دونه ولا انتخاب أساقفة من دونه، ولا تؤخذ قرارات من دون مشورته ولا تؤجّر الأوقاف أو تشرى وتباع في الأبرشيات من دون رأيه.
الإضاءة على هذا المبدأ الكنسيّ الواضح يقود إلى استنتاج دقيق بأن راعي الأبرشيّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكية وإن كان له الدور الأساسيّ في إدارة شؤون الأبرشيّة وله السيادة والولاية عليها، إلاّ أنه لا يقدر على الإطلاق أن يتخطّى الخطوط والسقوف المرسومة في العلاقة مع البطريرك أو مع المجمع الأنطاكي المقدّس وهو عضو فيه وجزء منه، ويتحوّل إلى حالة مليئة بالغضب والاحتجاج بلا قراءة متأنية وواضحة للأمور.
يتذكّر كثيرون من المعنيين في الشؤون الكنسية، كيف أنّ المثلّث الرحمات المطران فيليب صليبا وهو المشرقيّ الكبير وراعي أبرشية نيويورك وأميركا الشمالية، قرّر أن يقدّم أبرشيّته كأبرشية مستقلّة بنواح كثيرة عن الكرسيّ الأنطاكيّ المقدّس في القرار من دون الاستقلال في الروحانيّة والفكر والهويّة عنه في المطلق، فما كان من المثلّث الرحمات البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم سوى أن احتوى هذه المشكلة وانتدب لجنة من الكرسيّ الأنطاكيّ المقدّس قوامها المطران جورج خضر وشخصيات ارثوذكسية، للتفاوض مع لجنة ترأسها المطران فيليب صليبا وكانت فيه شخصيتان أو ثلاث من أبرشيته، وتوصلوا إلى اتفاق متوازن حافظ على نوعية العلاقة المجمعية بين الأبرشيّة والكرسيّ الأنطاكيّ المقدّس مع ترك هامش للأبرشيّة بأن ترشّح من ثلاثة أساقفة إلى المجمع بحال توفي راعي الأبرشيّة لينتخب المجمع واحدًا منهم وهذا حقّ شرعيّ للأبرشيّة وطوي هذا الملفّ إلى غير رجعة.
في تلك الأزمة وقف المطران الياس عودة راعي أبرشيّة بيروت بوجه مبدأ الاستقلال الذي ساد المطران فيليب صليبا وكان رافضًا له في الشكل والمضمون منسجمًا مع رؤية المثلّث الرحمات البطريرك إغناطيوس الرابع برفض هذا المبدأ بكليّته. وقد رجا سيادته كلّ من راجعه في هذه الأزمة أن يقفوا بوجه أي استقلال فالكرسيّ الأنطاكيّ المقدّس يجب أن يبقى واحدًا أحدًا بلا انقسام ولا تغيير أو تبديل.
على هذه الرؤية استند عدد من المعنيين في الشؤون الأرثوذكسيّة وطرحوا مجموعة تساؤلات تحت عنوان واحد لماذا يقود المطران الياس عودة حملة شعواء بوجه رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة العماد ميشال عون والبطريرك يوحنّا العاشر تحت عنوان الترخيص لجامعة القديس جاورجيوس الجامعيّة في بيروت، وهو عضو في المجمع الأنطاكيّ المقدّس، كما هو عضو في مجلس أمناء جامعة البلمند بدلاً من التهادن والتحاور للوصول إلى صيغة هادئة تدرس هذا الموضوع من كلّ جوانبه، والحملة هذه لم تتوقف عند هذا الحدود بل راحت تتمدّد نحو شخصيات أرثوذكسية معروفة بحضورها الكنسيّ وبخدماتها وعملها المصرفيّ والسياسيّ، بمواجهات اتخذت طابعًا شخصيًّا افتعلها صاحب السيادة بلا توضيح للأسباب الموجبة الداعية لها.
خلال الجناز الذي أقيم لراحة نفس راعي أبرشيّة المكسيك أنطونيوس شدرواي في كنيسة القديس نيقولاوس في الأشرفيّة، القى المطران عودة عظة، تمثّلت بنقد لاذع للواقع الذي هو فيه، وفي الوقت عينه، اتجهت للرد على ما كتب عن الواقع الأرثوذكسيّ، بالاستشهاد بالقديس العظيم إغناطيوس الإنطاكيّ، حيث قال حيث يوجد الأسقف توجد الرعية، وأكمل قائلاً ان الأسقف حرّ يجب أن ينتدب من يشاء أي الكاهن ليقرّر ما يشاء. واستتبع هذا الكلام لاحقًا بقرار حلّ مجلس رعية كنيسة نياح السيدة في رأس بيروت دون بديل له، وهو آخر معقل تجلت فيه المشاركة بين المؤمنين والكهنة على أبهى حللها. هذا الكلام عينًا كما الفعل الناتج عنه، استرعى انتباه أوساط أرثوذكسيّة فاعلة، فردت على قوله بما يلي:
1-الراعي هو راع مع الشعب وليس على الشعب. فالإنجيل الذي وضع على رأسه ليس إنجيل الحقد، ولا يستوي فيه المسيح الدجال، بل إنجيل المحبّة ويستوي في قلبه مسيح المحبة، والكنيسة وهو مقام عليها وفيها مطرانًا هي كنيسة الفقراء كنيسة المشردين وليست كنيسة الأثرياء، هي كنيسة المشاركة والشراكة وليست كنيسة العزل والانعزال وليس من نظام في الكنيسة سوى نظام المحبة والتعاضد.
2-حين رأى القديس باسيليوس العظيم بأن ثمّة من يقود الكنيسة نحو الانحراف والانحلال في عصره وقف في وسط الرماد الصارخ وقال: «أنا هو الكنيسة والكنيسة أنا» وأعاد الكنيسة إلى بهائها وحضورها المتألّق، وهنا يصح القول بأنّه حيث يكون الأسقف تكون الكنيسة، والانحراف ليس بالضرورة لاهوتيًّا بل يقد يكون مأخوذًا نحو اتجاهات مخالفة للحياة المجمعيّة.
3-ضرب الشراكة بين المؤمنين والكهنة يؤول إلى التسلط المطلق، والسؤال المطروح على المطران عودة وسواه من المطارنة، ماذا ينفع إذا خسر الأسقف الناس في أبرشيته ولم يتماه معهم؟ هل تصحّ حينئذ مقولة القديس إغناطيوس الأنطاكيّ القائل حيث يكون الأسقف تكون الرعيّة، أو يتجوّف عندها ويصير أسقفًا على مكّة كتعبير مجازيّ؟ إن ضرب مفهوم الشراكة مع إبطال دور مجالس الرعايا في أبرشية بيروت وكان أخرى مجلس رعيّة نياح السيدة في رأس بيروت أو في أي أبرشيّة أخرى نقض لمقررات المؤتمر الأرثوذكسيّ العام التي لم تنشر بعد.
4-إنّ الأزمة الناشئة ليست رعائيّة على الإطلاق بل هي سياسيّة بدأت منذ ان قام مطران بيروت بالردّ على الكنيسة الروسيّة في تأييدها الحرب على الإرهاب، واتضح منذ ذلك الحين بأن سيادته يجيء من رؤية سياسيّة تنتمي إلى مشتل واضح المعالم، والخلاف الظاهر بينه وبين البطريرك يوحنا العاشر حول الجامعة ليس رعائيًّا بقدر ما هو سياسيّ بامتياز ومرتبط بمواقف البطريرك من الحرب في سوريا وعليها. فالمطران عودة متبنّ لوجهة نظر سياسيّة آحادية الجانب تتعارض مع رؤية البطريرك المشرقيّة. ليست المسألة محصورة بهذا الجانب فقط بل تتجه إلى بث ما سمّاه الكاتب الفرانكفونيّ أمين معلوف هويات قاتلة في الداخل الكنسي، لتتسلل إلى دائرة الكرسيّ الأنطاكيّ المقدّس مفرّقة بين أسقف سوريّ وآخر لبنانيّ، وهذا كما رأته تلك الأوساط يشبه إلى حدّ بعيد الأزمة الكبرى التي حدثت في عهد المثلّث الرحمات البطريرك ألكسندروس طحان، مع غرس الانتداب الفرنسيّ التفريق بين المطارنة اللبنانيين والمطارنة السوريين، ومحاولة تأليب المطارنة اللبنانيين وسوقهم نحو الانشقاق بين لبنان وسوريا، فتكون في بيروت كنيسة مستقلة وفي دمشق كنيسة أخرى مستقلّة. وترى تلك الأوساط بأن السيناريو عينه بدأ يتكرر مع استعار هذا النقاش باستدخال فئات سياسيّة نفسها في صلبه وهي تنتمي إلى مظلات دولية وعربية لجذب الكنيسة من جديد إلى هذه الرؤية وعند البطريرك يوحنّا العاشر العودة إلى تلك المسألة خطّ احمر ولن يسمح بها.
5-الوحدة المجمعيّة التي كتب عنها المطران جورج خضر أكثر من مرّة ليست الهدف بل هي الوسيلة للبلوغ نحو المسيح الواحد. لا تفترض الوحدة المجمعية على الإطلاق تفرّد أيّ أسقف في مسألة ترتبط بالوحدة فيؤول سلوكه إلى هتك وتمزيق. وتلفت الأوساط النظر إلى مسألة جامعة القديس جاورجيوس في بيروت، معتبرة بأنّ طرح المسألة بهذا الشكل النافر الخارج عن السياق الأكاديميّ من شأنه أن يعطّل الوحدة المجمعيّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة، سيما ان جامعة البلمند تمثّل الوحدة المجمعيّة والشراكة الرعائيّة الأكاديميّة، وتمثّل بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق، وقد بدأ البطريرك ببناء جامعة أخرى قرب دير القديس جاورجيوس الحميراء في بلدة المشتاية في وادي النصارى لتعبّر عن هذه الوحدة. وتستذكر الأوساط قولا للمثلّث الرحمات البطريرك إغناطيوس الرابع قاله أمام مجلس للكنائس العالميّ سنة 1993 في الدير عينه مفاده أن بناء جامعة البلمند كشف لهويتنا المشرقية، فالحجر بدوره يكشف هويتنا أمام الجميع.
وفي النهاية، إنّ السقف في الكنيسة هو المجمع الأنطاكيّ المقدّس برئاسة السيد البطريرك. فالمواقف السياسيّة التي تمثّل الكنيسة الأرثوذكسيّة تصدر عن المجمع ولا تصدر من مكان آخر، وإذ يجوز لكلّ أسقف أن يبدي قراءة سياسيًّا أو موقفًا تجاه جور حدث أو مشكلة طرأت أو غبن لحق بشعبه، ولكن من دون أن ينحرف عن الرؤية العامّة للكنيسة وجوهرها الواحد. كنيسة أنطاكية وسائر المشرق ليست محصورة في مدى واحد، بل هي تجيء من أنطاكية حيث دعي التلاميذ الأول كما جاء في سفر أعمال الرسل، وقد جعلت من دمشق منطلقًا لانبثاثها، ومن بيروت مصبًّا إشعاعها وأرضًا لانغراسها وحوضًا لسطوعها، فانتشرت من المشرق إلى الخليج العربيّ وبعدها إلى أوروبا وروسيا والولايات الأميركية المتحدة. إنها الكنيسة الجامعة بين المقيمين والمنتشرين أو المغتربين وهي ضمتهم جميعًا إلى ملء قامة المسيح. فلا يمكن للوحدة أن تهتك ولا للشراكة أن تبطل، كنيسة الروم الأرثوذكس في أنطاكية وسائر المشرق جسد المسيح الواحد، المسيح المُشرق من المَشرق وهو مَشرق المَشارق.