التعدّدية الأرثوذكسية وضعف العصبية الطائفية (2 من 2)
في عرضه التاريخي رسم نائب رئيس مجلس النواب السابق إيلي الفرزلي صورة مفصلة لدور الأرثوذكس العروبي منذ نشأة لبنان الكبير وشرح الأسباب الكامنة وراء تبدل واقعهم اليوم في لبنان والمحيط. واستكمالاً للبحث حول الدور الأرثوذكسي وواقع عدم تكتلهم في حزب يحمل الطابع الطائفي كما هي الحال مع الطوائف الأخرى نستعرض مع الوزيرين الأسبقين غسان حاصباني وطارق متري رؤيتيهما للأسباب التي أدت إلى عدم ظهور أحزاب أرثوذكسية الطابع. فهل هو ذوبان في الهوية المسيحية أم واقع عابر للطوائف؟
قد يكون الكلام عن أحزاب طائفية في لبنان غير دقيق وفق ما يرى نائب رئيس مجلس الوزراء السابق والنائب الحالي غسان حاصباني فالأحزاب اللبنانية ورغم كون معظمها قد اخذ طابعاً طائفياً إلا انها ضمت في صفوفها أعضاء من طوائف مختلفة فلا حزب مملوك من طائفة في الواقع وإن بدا كذلك وما يحدد طائفة بعض الأحزاب هو ربما رئاسة الحزب أو إنتماء مجموعة من الناس إليه من طائفة واحدة.
حاصباني: الطائفة الأرثوذكسية لم ترضَ يوماً بتسييسها
بالنسبة للاحزاب المسيحية فقد ضمت كلها مشاركة أرثوذكسية لافتة فشارل مالك مثلاً كان ضمن الدائرة الضيقة للرئيس بشير الجميل يقول حاصباني، ربما لم نرَ رؤساء أحزاب مسيحية من الطائفة الأرثوذكسية رغم أنهم احتلوا مواقع متعددة ولعبوا أدواراً مهمة. صحيح أن أنطون سعادة تزعم الحزب القومي السوري الاجتماعي ومؤخراً استلم رئاسة الحزب لفترة اسعد حردان وهما شخصيتان أورثوذكسيتان لكن الحزب القومي ليس حزباً أورثوذكسياً ولا يمكن ربط الطائفة بأحزاب معينة.
الأرثوذكس موجودون ضمن أحزاب مختلفة وعندهم تواصل مع جهات كثيرة ولا يمكن حصر توجههم السياسي بجهة واحدة بل ثمة تعدد واضح في الانتماءات والعقائد السياسية، فهناك السيادي والممانع والمحافظ والليبرالي واليميني واليساري وهذا التعدد يشكل غنى عند الطائفة الأرثوذكسية. قد يقول البعض إن الأرثوذكس مستقلون عن الأحزاب وهذا الأمر برأي حاصباني غير صحيح لأنهم في صميم الأحزاب ويؤمنون بعقائد سياسية معينة رغم كون بعضهم يعتبرون أنفسهم مستقلين لكنهم في جو أحزاب سياسية معينة ويشتد هذا الانتماء في أجواء الحرب والأزمات.
كثر فكروا بإنشاء حزب أرثوذكسي لكن التجربة لم تنجح يؤكد النائب غسان حاصباني بسبب التعددية الموجودة عند الأرثوذكس. وربما يعود ذلك الى كون الانتماء الأساسي عند هؤلاء هو للكنيسة الأرثوذكسية فالكنيسة هي عقيدة إنسانية إجتماعية ودينية، بينما تركت الحرية لكل فرد بالنسبة للعقيدة السياسية ليختار ما يتوافق مع أفكاره وتطلعاتة ولم يحصر بعقيدة سياسية واحدة يمكن أن تصفه وتختصر وجوده. البعض كذلك فكروا بإنشاء حركة للدفاع عن حقوق الأرثوذكس ولكن لا يمكن اعتبار الدفاع عن حقوق طائفة السبب في إنشاء حزب وكل المحاولات لإنشاء أحزاب بناء على حقوق طائفة ما باءت بالفشل. ومن حاول من أبناء الطائفة أن يأخذ منحى واحداً أبعد عنه الأرثوذكس الباقين بسبب التعدد والغنى الموجودين داخل الطائفة.
لطالما كانت علاقة الأرثوذكس بكل الأحزاب المسيحية جيدة وبعض الشخصيات ساهمت في تأسيس هذه الأحزاب وحتى في الأحزاب غير المسيحية كان للأرثوذكس وجود فاعل…لا يجوز ان نعتبر انه يجب ان يكون هناك تجمعات أرثوذكسية حتى تلعب دوراً فاعلاً وجامعاً لأن التعددية الأرثوذكسية جعلتها موجودة في كل مكان وجعلتها عنصر تفاعل إيجابي رغم كون البعض قد اخذوا منحى كان له تأثير سلبي.
لكن تبقى حقيقة واضحة هي وجود ثوابت سياسية لدى الكثير من أبناء الطائفة الأرثوذكسية لا تتعارض مع إيمانهم لكنها نابعة من قناعاتهم السياسية التي كوّنها واقع البلد. لذا يمكن للطائفة الأرثوذكسية ان تلعب دوراً في تقريب وجهات النظر إنما ليس على حساب الثوابت الوطنية والحفاظ على المبادئ والقيم الأرثوذكسية والحضور داخل المجتمع اللبناني وفي العملية السياسية. فهذا الحضور أهم من وجود أحزاب ومجموعات تحتكر الكلام باسم الأرثوذكس لأن إدخال الطائفة بالسياسة غير مقبول. وجودها عابر للطوائف وللتموضع السياسي ومنظورها دائماً منظور وطني ينطلق من التعددية والثوابت السياسية. فالنهج الأرثوذكسي ركز دوماً على بناء الدولة رغم مقاربات سياسية مختلفة. وفي حين أخذت شخصيات ارثوذكسية مسارات مختلفة وفق اهوائها إلا أنها لعبت دوماً دوراً وطنياً.
يذهب حاصباني في انتمائه الأرثوذكسي الكنسي بعيداً ويقول إن حقوق الطائفة ليست حكراً على أحد وأن كل ما يحمل مسمى أرثوذكس خارج هيكلية الكنيسة الأرثوذكسية يحمّل الطائفة وزراً سياسياً ويساهم في خلق كيان خارج التعبير الأرثوذكسي الذي ينتمي الى الكنيسة فقط واي استخدام له خارجها يجعله تعبيراً مدنياً يربط مجموعة اشخاص لا يمكن ان يجتمعوا تحت مسمى أرثوذكسي. فالكنيسة هي المظلة والمرجع الأساسي للأرثوذكس بفهومهم العقائدي. على سبيل المثال يقول حاصباني إن القانون الأرثوذكسي ربط اسم الطائفة بعمل سياسي قد يخرج عن قناعاتها وبقي خارج الإجماع الأرثوذكسي.
طارق متري: التوزع الجغرافي أضعف العصبية الأرثوذكسية
قليلة هي الأحزاب التي تقول عن نفسها أنها تابعة لطائفة معينة، واعتبار حزب معين انه حزب طائفته ناجم عن نظرة الآخرين له فالأحزاب كلها تريد أن تكون أحزاباً مفتوحة لكل اللبنانيين لكنها تتحول بفعل الواقع الى أحزاب طائفية يقول الوزير السابق الدكتور طارق متري. أما بالنسبة للأرثوذكس فقد تميزوا تاريخياً في لبنان بانتشارهم جغرافياً في أكثر من منطقة لا سيما الساحلية منها، لم يكن لديهم معقل محدد كجبل لبنان أو جبل عامل، حتى الكورة التي تعتبر معقلاً لهم هي منطقة مختلطة. وقد منع هذا المعطى الجغرافي الديموغرافي وتوزعهم في اكثر من منطقة من نشوء عصبية معينة غالباً ما تنشأ بفعل التكاتف فكانت العصبية الأرثوذكسية اضعف من العصبية الموجودة في الطوائف الأخرى.
من جهة أخرى ثمة شعور أقوى بالانتماء عند الأرثوذكس الى المنطقة المحيطة والتي كانت تعرف بالدولة البيزنطية. وعلاقتهم مع الأرثوذكس في سوريا علاقة متينة إذ تجمع بينهم كنيسة واحدة وعلاقات قربى وزواج. لا شك أن الوضع تغير اليوم وثمة تباعد بين البلدين لكن العلاقات الكنسية والعائلية لا تزال موجودة. في القرن التاسع عشر صار الأرثوذكس أكثر إظهاراً لهويتهم العربية وصار الإكليروس العالي عربياً بعد أن كان يونانياً. وشهدت هذه الفترة يقظة الهوية العربية وقد كان للأرثوذكس دور فيها وفي النهضة العربية واستمر هذا الدور العربي. لذا عند مجيء لجنة كينغ- كراين في العام 1920 لاستفتاء اللبنانيين ووضع تصور لمستقبل بلدهم بعد سقوط الدولة العثمانية كان الأرثوذكس ضد الانتداب الفرنسي ربما لأسباب دينية كونه يميز الكاثوليك أو الموارنة على حساب الطوائف المسيحية الأخرى ولأن الأرثوذكس كانوا ميالين الى الحكومة العربية. لكن عند قيام لبنان انخرطوا في الكيان اللبناني من دون تردد إنما دون حماس لأن معظمهم كانوا يرون أنفسهم كعرب وسوريين ولم يكن الانتماء اللبناني عندهم واضحاً وقوياً ولا تعلق عندهم بجبل لبنان كما الموارنة. ولا بد أن نذكر ان دور الكنيسة الأرثوذكسية يختلف عن دور الكنيسة المارونية التي تمارس تأثيراً فكرياً وسياسياً على أبنائها وكذلك دور الرهبانيات المارونية والمؤسسات التعليمية التي تساهم في شد العصبية الطائفية.
ما سمي بالفكرة اللبنانية لم يكن قوياً لديهم لذا انخرطوا في الأحزاب القومية والعروبية وفي الحركة الشيوعية ربما لعلاقتها بروسيا. ولطالما كان ميل الأرثوذكس في السياسة علمانياً وعصبيتهم الطائفية أقل من سواهم من الطوائف وكأن ثمة ازدواجية عندهم فمن جهة هم فخورون بانتمائهم الأرثوذكسي ومن جهة أخرى ليسوا متقوقعين ضمن هذا الانتماء بل منفتحين وغير طائفيين. التفسير السوسيولوجي ربما يعود الى علاقة الأرثوذكس بالمدينة أو الجبل فهم أهل مدن وفي المدينة ما يحدد الهوية الاجتماعية هو المهنة وليس الأصل أو القرية. وفي المدينة تذوب المجموعات في المجتمع الأكبر والأرثوذكس في لبنان حيث عاشوا في معظمهم في مجموعتين كبيرتين في بيروت وطرابلس القريبة من الكورة لم يكن ممكناً أن يكونوا منغلقين تجاه المسلمين الذين يتعاملون معهم مهنياً وتجارياً.
اليوم تبدلت الأمور قليلاً كما يشرح الدكتور طارق متري فالتمييز بين الأرثوذكسيين والمسيحيين الآخرين قد ضعف وولدت هوية مسيحية أقوى من الهويات الطائفية داخلها، وأضعفت الهويات الخاصة الفرعية التي ذابت ضمن الانتماء المسيحي. لكن لا يمكن أن نتكهن متى تستيقظ العصبية الأرثوذكسية، لأنها هوية موسمية تظهر أحياناً متى تم المسّ بحقوقها مثلاً لتعود وتضعف بسرعة إما لمصلحة الهوية المسيحية أو لمصلحة اللاطائفية، فالنظام الطائفي في لبنان يوقظ عند الأرثوذكسي الحس الطائفي للدفاع عن حقوق الطائفة لكنهم يبقون عابرين للطوائف مختارين ومضطرين. ظروفهم منعتهم من التكتل والتقوقع ووجودهم الجغرافي والديموغرافي وذاكرتهم التاريخية وانتماؤهم للمنطقة إضافة الى نظامهم الكنسي الذي يجعل من سوريا ولبنان نظاماً كنسياً واحداً كلها عوامل جعلتهم أكثر انفتاحاً وعلى انسجام أكبر مع العالم العروبي.
إن التوزع الجغرافي للأرثوذكس وانتشارهم في لبنان وسوريا وفلسطين لم يساعدا في إنشاء حزب خاص بهم، وقد جرت محاولات إنشاء أحزاب مثل حزب الغساسنة أو المشرق لكنها لم تنجح كما أن الكنيسة لم تشجع على قيام أحزاب. مؤخراً كانت محاولة اللقاء الأرثوذكسي لإنشاء تمثيل للأرثوذكس في الحياة السياسية عبر القانون الأرثوذكسي الذي تم اقتراحه لكن لم يعمل اللقاء على تفعيل دور الأرثوذكس في السياسة إذ لم يرشحوا اشخاصاً للنيابة او يختاروا مدراء عامين. أما بالنسبة للزعامات فلم يبرز عند الأرثوذكس زعامات كبرى بل كان لديهم رجالات فكر وقيادات حزبية. وفي العقود الأخيرة برز الرئيس ميشال المرّ كزعامة متنية نافذة لكن قاعدته الشعبية كانت تتضمن عدداً كبيراً من الموارنة وقد بنيت على البلديات في المنطقة وعلى شبكة علاقات واسعة أكثر من كونها زعامة أرثوذكسية.
ختاماً قامات أرثوذكسية كبيرة غابت او تراجع دورها، غسان تويني، ميشال المر،، جورج خضر، ألبير مخبير، فؤاد بطرس، عصام فارس، إيلي سالم… ليبقى على الساحة الأرثوذكسية اليوم أسماء ارادت لنفسها حمل الوهج الأرثوذكسي أبرزها إيلي الفرزلي والياس بو صعب فهل نجحت؟