تحت ستار تمثيل معظم المكونات السياسية في الحكومة الجديدة، تبعاً لما أفرزته الانتخابات النيابية من أرقام وأوزان، يتكرر مشهد تقاسم الحصص طائفياً ومذهبياً، ولو بمسميات مختلفة، لكأن الجميع يعود الى القانون الأرثوذكسي من دون أدنى خجل
حفلت الأيام الاخيرة بسلسلة لقاءات سياسية على أرفع المستويات، في إطار الدفع لتأليف حكومة سعد الحريري الثالثة. وعلى رغم أن هذه الحركة لم تسفر عن أي تقدم ملموس، سوى توسيع مروحة الاتصالات وتنشيطها، في أكثر من اتجاه، خصوصاً بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، إلا أن ثمة ملاحظة لفتت إليها مصادر سياسية، تتعلق بالتموضع الطائفي الذي يصبغ هذه اللقاءات.
عندما طرح قانون الانتخاب المعروف باسم «القانون الأرثوذكسي» وتبنته الأحزاب المسيحية، قامت القيامة لدى معظم القوى السياسية، بما في ذلك شخصيات وقوى مسيحية، حذرت من الطابع الطائفي والمذهبي لهذا القانون، ومن أنه يعيد لبنان سنوات إلى الوراء.
بعد مخاض طويل، هللت هذه القوى لقانون النسبية وأجريت الانتخابات النيابية على أساسه، كونه لا يشبه بتمثيله للشرائح المتنوعة القانون الأكثري، ويعكس الاختلاف السياسي والطائفي. لكن ما جرى أن الانتخابات أجريت على النسبية بثغرات فاضحة طبعت تقسيم الدوائر والخلل في تطبيق القانون، ما أدى إلى انتخابات تكاد تكون شبيهة بالقانون الأرثوذكسي، لا سيما أن تشكيل اللوائح والتحالفات جاء طائفياً بامتياز، فضلاً عن الصوت التفضيلي الواحد في الدائرة الصغرى (القضاء)، ولم تأخذ التصريحات والخطب السياسية ولو بالحد الأدنى، معايير الالتزام بروح النسبية، لا بل اعتمدت نبرة طائفية ومذهبية بحت.
مع البدء بالإعداد لتأليف الحكومة، يكاد المشهد يكون نفسه. ما حصل هذا الأسبوع من لقاءات رسمية عقدت في سبيل تذليل العقد الحكومية يعيد التموضع المذهبي والطائفي للقوى السياسية إلى الواجهة. كل واحدة من هذه القوى تطبّق في طريقة تعاطيها مع الملف الحكومي، المشروع الأرثوذكسي بحرفيته، على غرار ما حصل في الانتخابات النيابية.
لم تكن صورة لقاء رؤساء الحكومات السابقين مع الرئيس المكلف سعد الحريري، إلا تطبيقاً لقاعدة قديمة – جديدة، تحصر معالجة كل ما يمت إلى شؤون رئاسة الحكومة بالطائفة السنية. واتخذ هذا اللقاء بطبيعة الحال أبعاداً أكثر مع الإشكالات التي تحيط بموضوع التأليف في ظل الكلام عن صلاحيات رئيس الجمهورية والرئيس المكلف والتقاطع بينهما حول التشكيلة، ولمن ستكون الكلمة الأخيرة في إصدارها، خصوصاً أن من يواجه الحريري هو فريق رئيس الجمهورية بكل ما يمثل «مسيحياً»، محاولاً فرض أعراف جديدة في المشاركة في عملية التأليف. إضافة إلى محاولة الرؤساء السابقين للحكومات، تعبيد الطريق أمام الحريري، ووضع إطار للتمثيل «السني الحقيقي» في الحكومة العتيدة.
وتبدو مفارقة أن يقول الرئيس فؤاد السنيورة، أمس، بعد لقائه الرئيس سليم الحص إن «ليس هناك مواقع في الدولة حكراً على مذهب أو طائفة، ولا موقع ممنوعاً على أي شخص ينتمي لطائفة معينة» في حين أن الكلام الطائفي يطغى على ما عداه في عملية توزع الحقائب الوزارية ومنصب نائب رئيس الحكومة وتولي الحقائب الأساسية، بما في ذلك وزارة الدفاع، إلى درجة أن هذه المواقع تكاد تكون «حصرية» بين وزراء الطوائف «الأولى» فقط. فهل يقبل تيار المستقبل أن يعطي وزارة الداخلية لغير السنة، وهل يقبل الموارنة إعطاء الخارجية أو الدفاع لغير الموارنة والأرثوذكس؟
الكلام الطائفي يطغى على ما عداه في عملية توزع الحقائب الوزارية ومنصب نائب رئيس الحكومة
في مقابل اجتماع رؤساء الحكومات السني الطابع، ومع بروز العقدة المسيحية في توزع الحقائب الوزارية، وتصاعد حدة الكلام بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، كان لا بد من عقد لقاء ثنائي بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس حزب القوات الدكتور سمير جعجع، للبحث في الخلاف المسيحي والحصص الوزارية. أما التحضير لعقد لقاء بين جعجع ورئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل، لحلحلة العقدة المسيحية، فيأتي تتمة لحصر الملف المسيحي بين القيادات المسيحية، ونأي كل الأطراف الآخرين بأنفسهم عن مشكلات مسيحية صرف. ففي اللحظة المناسبة عاد الاصطفاف المسيحي، ليضع في مقدمة الاهتمام إعادة إحياء تفاهم داخلي، وتقاسم الحصص وتسمية الوزراء صراحة على قاعدة «الأرثوذكسي» بكل روحيته التي كانت مرفوضة سابقاً.
إذا كانت الثنائية بين حزب الله وحركة أمل عبرت عن نفسها منذ زمن بعيد في احتكار التمثيل الشيعي وترجمة مصالح الطائفة من دون مواربة، بما فيها التمسك بوزارة المال السيادية، فإن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط تموضع في المتراس الدرزي، ليكرس في تعامله مع الشأن الحكومي، ما تفعله القيادات الأخرى، مصراً على نيل حصته الدرزية الكاملة واختياره وحده شخصياتها.
المفارقة في كل ما سبق، أن كل هذه القيادات تعبر علانية عن ضرورة الحفاظ على حقوق الطوائف وعن تمثيلها وتقاسم حصصها المذهبية والطائفية. كل ذلك كان مفهوماً، وإن لم يكن مرغوباً، أيام القانون الأكثري. أما اليوم، وبعد مرحلة التغني بإنجاز النسبية تصبح المسألة مبهمة. فإذا كان التيار الوطني الحر اتهم خلال مرحلة ما قبل الانتخابات بأنه يعيد لغة وعبارات تعود إلى زمن الحرب والانقسام الطائفي، فإن تقاسم الحقائب ووضع كل فريق سياسي تشكيلته الطائفية، يضع الجميع في مرتبة واحدة مع الفارق أن هذا التقاسم مغطى بعنوان «تمثيل كل القوى السياسية نسبياً في الحكومة». ألم يكن الأفضل لو طبق «الأرثوذكسي» صراحة من دون خبث سياسي؟.