«قانون الفرزلي» عبوة سياسية على درب الميثاقية
«ثورة الأرثوذكس» والحكومة.. من «المُستحق»؟
عندما قررت نواة أرثوذكسية صلبة، وبعد طول غياب، ألا تعتبر نفسها كنيسة وحسب.. كانت البداية.
ربما هو الحنين الى مبادرات الأمس البعيد، من أنطون سعادة «السورية القومية» الى ميشال عفلق «البعثية العربية» وغيرهما، ولكن المهم أن «الصحوة قامت». أما الترجمة، فتبدت في 13 أيلول 2011 عندما عقد «اللقاء الأرثوذكسي» اجتماعه الصاخب آنذاك مفجرا «القنبلة» التي حركت المياه السياسية الراكدة: مشروع قانون انتخابي صار يعرف باسم قانون «اللقاء الأرثوذكسي».
ترأس المؤتمر الصحافي الذي عقد في مقر «اللقاء» في ساحة ساسين في الأشرفية، «عراب القانون» نائب رئيس مجلس النواب السابق ايلي الفرزلي الذي أطلق «الأسباب الموجبة» للمشروع، شارحا أنه يرتكز على أن «كل مذهب ينتخب نوابه على أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة ووفق قاعدة النسبية». وورد في «الأسباب» أيضا أن من شأن هذا الطرح الجديد أن «ينقل الصراع المرضي بين الطوائف الى تنافس حي ضمن الطوائف». بالإضافة الى توقفه عند «الخصوصية المارونية» و «الخصوصية الدرزية» وحكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي اعتبرت «غير دستورية وغير شرعية وغير ميثاقية على الرغم من تمثيلها الأكثرية النيابية لمجرد أن وزراء الطائفة الشيعية فيها استقالوا منها»، وصولا الى ملاحظته أنه «بهذا الحدث انتهت مفهومية التوازن الوطني ـ السياسي السائدة بعدما انتقلت نهائيا من الثنائية المارونية ـ السنية الى «أكثرية طوائفية» عبر توازن سني شيعي ماروني».
قبل ذلك، كان الفرزلي قد مهد لهذا الاعلان بسلسلة لقاءات ظلت بعيدة من الأضواء شملت مراجع حزبية لبنانية وسفراء ووجوها إعلامية مخضرمة، وكان لسان حاله هو لا بد من جعل النسبية حجر زاوية أي قانونا انتخابيا، لأن كل خطاب اليسار منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي لم يقدم أو يؤخر في هذا السياق.
خاطب الفرزلي العلمانيين والملحدين المحتجين على «قانون الفرزلي» بالقول «أليس هدفكم تفجير الطوائف والمذاهب من داخلها.. هذه هي العبوة التي ستعيد إنتاج واقع تمثيلي وسياسي جديد في لبنان وتضع البلد على سكة المواطنة بدل استمرار الانزياحات على أساس طائفي ومذهبي».
سرعان ما بدأ هذا الخطاب الارثوذكسي يغزو الشاشات والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي. ومن الطرائف التي تروى في هذا الإطار أن «دولة الرئيس» كان يشاهد أحيانا في بث مباشر، في الوقت نفسه، على أكثر من شاشة تلفزيونية.
آمن أهل «الأرثوذكسي» بصواب طرحهم لناحية قدرة القانون على «تصحيح الخلل الحاصل في الحياة السياسية وإعادة التوازن والشراكة الفعلية بين جميع مكونات المجتمع اللبناني».
وكما كان متوقعا، حقق رفع سقف الخطاب المسيحي هدفه وصار «المشروع الارثوذكسي»، لا فقط على كل شفة ولسان، بل بات يشكل بوصلة للواقع المسيحي العام، خصوصا لجهة استخدام تعابير وأدبيات «اللقاء» في سياق المطالبة «بحقوق المسيحيين المهدورة».
وعلى يد «تكتل التغيير والاصلاح» برئاسة العماد ميشال عون تحول «مولود اللقاء الارثوذكسي» الى مشروع قانون «شرعي» يدرس على طاولات اللجان النيابية والهيئة العامة. حتى إن «فخامة الرئيس» اليوم و «رئيس التكتل البرتقالي» آنذاك نشر، وهي من المرات النادرة أو ربما الوحيدة، مقالة له في جريدة «السفير» بعنوان «لماذا قانون اللقاء الارثوذكسي» بتاريخ 18 أيار 2016، وفيها اعتبر عون أنه بموجب هذا القانون «يتأمن التمثيل الصحيح بشكل كامل لجميع الشرائح بأكثريتهم وأقليتهم وتتحقق العدالة لجميع المواطنين سواء داخل طوائفهم أو ما بين الطوائف. كما أنه يعيد الميثاقية الى قانون الانتخاب ويصحح غبنا لحق بالمسيحيين».
هذا «الاحتضان النيابي» من أكبر تكتل نيابي مسيحي وثانية أكبر كتلة برلمانية لطرح «اللقاء الارثوذكسي» كان محط تقدير عال لدى أهل «اللقاء» إذ توجه وفد منهم حينها الى الرابية لشكر «الجنرال» على تلقفه الإيجابي.
وكانت انتقلت عدوى «الأرثوذكسي» الى اجتماعات بكركي، ووضع «القانون الشهير» على طاولة معراب، وشكل حجر زاوية التبدل الجذري الأول في العلاقات بين سعد الحريري وسمير جعجع عندما تبنى الأخير مشروع «اللقاء» وقرر التصويت له في مجلس النواب، وبالفعل، ظل هذا المشروع مطروحا على جدول أعمال الجلسة النيابية العامة الأخيرة التي ناقشت قبل سنتين مشاريع قوانين الانتخابات، وهو الأمر الذي يلزم هيئة مكتب المجلس، عند عقد أي جلسة جديدة، لمناقشة القانون الانتخابي، أن تبدأ من عند «الأرثوذكسي».
ما حصل من تقارب لا بل من استقطابات بين المسيحيين، ولو أحيانا على حساب مصالح سياسية من نوع آخر (حالة «القوات» والحريري)، وصولا الى تبني الخطاب الميثاقي من قبل العماد عون، اندرج كله في سياق الهزات الارتدادية لمشروع قانون الفرزلي، الذي مهد الطريق لاعلان النوايا ومن ثم تفاهم معراب وتبني سمير جعجع ترشيح العماد عون.
ومن المفيد التذكير أيضا أنه في الجلسة ما قبل الأخيرة للحوار الوطني، كان هناك توافق كامل على جعل «قانون الفرزلي»، أساسا لإنشاء مجلس الشيوخ مستقبلا، وهذا ما عدّه أصحاب القانون «اعترافا ضمنيا بأن مشروعهم صالح لأن يعتمد للانتخابات النيابية ككل»، وهذا ما زاد من اعتداد «اللقاء» بانجازه وأثبت أنه «حالة أرثوذكسية مستقلة»، في الفضاء المسيحي، برغم تميز علاقته بالعماد عون.
لم يقتصر الأمر على القانون، بل ضرب اللقاء موعدين جماهيريين ثابتين كل سنة: الأول، إحياء ذكرى خطف المطرانين الأرثوذكسيين في سوريا كصرخة في وجه العالم الصامت. والثاني، هو اليوم الثقافي الطويل الذي يحييه في ضهور الشوير ويتخلله تكريم قامات أرثوذكسية دخلت التاريخ كأسد رستم والمطران جورج خضر وغيرهما. وبات من الملاحظ أن النائب السابق مروان أبو فاضل الذي تجمعه أخوّة وصداقة مع «المير» طلال أرسلان، لم يعد يعرّف عنه في إطلالاته كنائب رئيس للحزب الديموقراطي اللبناني بل كأمين عام «اللقاء الأرثوذكسي» بعدما نجح «ابو منير» في تثبيت حيثية «اللقاء الأرثوذكسي» على الساحة السياسية.
استنادا الى كل ذلك، يرى «اللقاء الأرثوذكسي» اليوم أنه «مستحق» بالتمثيل الأرفع في الطائفة ومن خلال أشخاص ينتمون الى هذه الحالة الارثوذكسية. أسماء يشعر معها «اللقاء» ومن يمثل بأنه أنصف عبر إعطاء الحق لمستحقيه من طراز عصام فارس وميشال المر وغيرهما ممن قد تعود معهم نيابة رئاسة مجلس الوزراء «مؤسسة» كما كانت نيابة رئاسة مجلس النواب تشكل مؤسسة حقيقية في زمن منير أبو فاضل ومن بعده ألبير مخيبر وغيرهما.
يلفت أبو فاضل الانتباه الى أن «حكومة مؤلفة من 30 وزيرا عادة ما يكون موقع نائب رئيس الحكومة فيها بلا حقيبة وهذا ما يفرض «الثقل السياسي» الواجب توفره في من يشغل هذا الموقع». ويتابع: «كلنا ثقة أنه في عهد الرئيس ميشال عون «بي الكل» وفي ظل الاجواء الايجابية العامة، لا بد لفخامة الرئيس أن يترجم توجهه الأصلي بمنح موقع نيابة رئاسة مجلس الوزراء الى شخصية ارثوذكسية في جوهر تحركها ودورها وحيثيتها». وأما إذا لم تتوافق حسابات البيدر والحقل، فمقولة تشي غيفارا تبقى حاضرة كما كانت في الاستحقاقات السابقة: «الأذكياء يخططون للثورة. المجانين ينفذونها. والانتهازيون يقطفون»..