ازدحم جدول المحكمة العسكريّة، أمس، بالشبّان العشرينيين الذين قرّروا يوماً الهجرة إلى «الخلافة الإسلاميّة». تختلف المبرّرات التي يعطيها كلّ واحد منهم.
الكثيرون منهم ضعفوا أمام «المعاشات الحلوة» التي وعدوا بها بالإضافة إلى تأمين عروس ومنزل، وآخرون تحدّثوا عن ترديّ أوضاعهم النفسيّة والاجتماعيّة أو ظنّهم بأن «داعش» ينفّذ التعاليم الإسلاميّة. أمّا الأغرب، فكان ذلك الشاب الذي قرّر الالتحاق بـ «داعش» كي يضغط على أهله ليسمحوا له بالزواج من الفتاة التي يحبّها!
روى أحدهم ما عاناه بين «أخوة الجهاد». يقول الموقوف عمر د. إنّه ما إن وصل إلى الرقّة حتّى تأكّد من زيف الادعاءات وأنّه لن ينال «ولا فرنك» من الـ2500 دولار التي وعده بها القياديّ في التنظيم شاكر الشهال الملقّب بـ «أبو الفضل»، وأغرى بها أصدقاءه الثلاثة الذين ذهبوا معه إلى سوريا.
ضاق صدر الشاب حينما مكث بين أربعة حيطان مع أصدقائه ليحضّر الأكل للمقاتلين، من دون أن يسمح له بشيء. «التلفزيون حرام. ارتداء الثياب الملوّنة حرام. التدخين حرام».
صار «المجاهدون الجدد» يطالبون بجوازات سفرهم، حتّى تمّ تهديدهم وإفهامهم أنّ القاعدة الذهبيّة لدى «داعش» هي نفسها المعتمدة لدى الأعداء. نفّذ ثم اعترض: «هنا تنفيذ مطالب الأمير على السّمع والطّاعة».
بقي الوضع على ما هو عليه، حتى ارتأى عمر وأصدقاؤه اختراع كذبة قالوها لمسؤول موقعهم الملقّب بـ «عبد الودود الجزائري»، بأنّهم سيذهبون للقاء أهلهم في تركيا ثمّ يعودون إلى الرقّة.
هكذا استطاع الشبّان العودة إلى لبنان. كانوا يدركون أنّ مصيرهم سيكون السّجن أو الموت «ومع ذلك عدنا. السّجن أفضل من داعش».
وبالفعل، صار هؤلاء اليوم خلف القضبان. يروي عمر قصّته مع «داعش»، قبل أن يتوجّه إلى رئيس المحكمة العسكريّة العميد الرّكن الطيّار خليل إبراهيم: «اعتبر ابنك أخطأ، ماذا تفعل به؟».
بدا المشهد مستغرباً، أمس. قلّة أنكروا التّهم الموجّهة إليهم، فيما بدت هيئة «العسكريّة» أشبه بكاهنٍ تتوالى على كرسيّه الاعترافات.
عنتر: أنا آثم
ولكن لم يقم أحد بطقوس الاعتراف كما فعل الشيخ أسامة عنتر. الشيخ العشريني الذي كان مكلّفاً من قبل دار الفتوى بأن يكون إمام «مسجد التقوى» وخطيب «مسجد الصحابة»، وعضو «هيئة العلماء المسلمين» والمقرّب من رئيسها آنذاك الشيخ سالم الرافعي، يقول الأمور على طريقته.
أكثر من 4 مرّات، وقف فيها عنتر في القاعة نفسها، وفي كلّ مرّة كان يجلد نفسه ويجلد «الهيئة» ومشايخها لما ارتكبوه من أخطاء بعد إصدار الفتوى بضرورة فتح باب الجهاد إلى سوريا وتكليفه شخصياً بتسجيل أسماء الراغبين بالذهاب وتزكيتهم لدى «داعش» و «النصرة».
وقف الشيخ المبتسم خلف القضبان، ليؤكّد أنّه نادم على ما فعل. «أنا أخطأتُ وتبتُ، وخطئي لم يكن قانونياً بل شرعياً لأنني آثم وسأُسأَل بعد الموت عن المفسدة (تشجيع الناس على الجهاد) التي ارتكبتها».
الشيخ المفوّه الذي يسمّي الأشياء بأسمائها، يتذكّر أنّ الفتوى الرسميّة التي أصدرتها «هيئة العلماء المسلمين» إثر معركة يبرود كانت مغطّاة سياسياً. لم يتحرّك أحد لتغيير هذا الواقع إلّا وزير الدّاخلية آنذاك مروان شربل الذي قوبل برفض من «الهيئة» التي طالبت بانسحاب «حزب الله» من سوريا حتّى توقف العمل بفتواها.
يكمل عنتر في سرد الحقائق، مؤكّداً أنّ «هذه الفتوى (الدّعوة إلى الجهاد) ما زالت موجودة وما زالت سارية المفعول حتّى الآن»!
لا يسكت الموقوف حينما يسأله العميد إبراهيم عن سالم الرافعي الذي لا يمرّ أسبوع واحد إلّا ويتردّد اسمه على ألسنة الموقوفين الذين يؤكّدون أنّه كان «سبب تحريضهم على القتال في سوريا». وبعكس النيابة العامّة العسكريّة التي لا تحرّك ساكناً بعد هذه الاعترافات المتكرّرة، فإنّ لعنتر ما يقوله لرئيس «الهيئة» السابق، مشيراً إلى «انني أقولها هنا (في السجن) وفي الخارج: الرافعي أخطأ».
وكما عنتر كذلك إبراهيم بركات المعروف بأنّه كان المسؤول الشرعيّ لـ «داعش» في طرابلس. هو أيضاً أعلن توبة من نوع آخر.
لأكثر من ساعة، بقي ابن الـ28 عاماً ينصت بإمعان لأكثر من 6 مدّعى عليهم في الملفّ نفسه بجرم تشكيل مجموعة مسلّحة للقيام بأعمال إرهابيّة وما يمكن أن يقولوه عن علاقتهم به، ومحاولة ذهابهم إلى سوريا قبل إلقاء القبض عليهم في مرفأ طرابلس.
ومع ذلك، أبى الشاب ذو اللحية التي يكسوها الشيب الخروج من القاعة بعد إرجاء جلسة استجوابه إلى 22 آب المقبل، قبل أن يقول ما لديه. «حضرة الضابط» نادى بركات على إبراهيم ورفع يده، ليعده بأنّه سيقول الحقيقة في الاستجواب «وسأؤكّد لك أنّني لستُ كما تظنّ، ولو أنني ارتكبت الكثير من الأخطاء»!