Site icon IMLebanon

الضاحية عاصمة أخرى

كأنها عاصمة أخرى للبنان. كأن تكون مستقر البلاد التي تتصدَّق بالشهداء. كأن تكون ملاذ القوة الناطقة بالتحرير. كأن تكون مخزن القضية وخزان الفعل. كأن تكون الطريق الآمن للشهداء، الشهداء الذين تنتظرهنّ الأمهات عند مداخل القلب ومنعطفات الروح وانتظارات السماء… السماء الدامعة بالكلام، الكلام الذي يقول: «حسبي…».

في سيرة الضاحية، أنها وطن مختلف. متاخمة للحدود، وهي بعيدة عنها. هي الجبهة الأمامية في مواجهة العدو، وهي على مسافة أقضية من الاحتلال. محاذية للشريط الحدودي وعيونها مكتظة بالفسحة المتاحة لرؤية فلسطين. هي الطريق إلى قرى وبلدات الجنوب والبقاع. هي المباركة بين المدن والتي أعطيت رتبة الأبوة لبنت جبيل. بنت جبيل التي من ركامها نهضت لتنثر الأرزّ والدمع على القوافل الباسلة، وليزف القائد منها «عرس التحرير». بنت جبيل شرفة الضاحية، وكل القرى المحرّرة شرفات… الضاحية، هي الطريق إلى بيروت لتعكس صورتها السياسية والنضالية على العاصمة المفتوحة على مرايا العالم. لا تغار من بيروت، لأنّها في مرتبة الشقيقة الكبرى. الضاحية، هي التي تعيش طقس القدس وزياحات فلسطين. لا تخطئ القِبْلَةَ أبداً. القدس أولى الطلقتين.

في سيرة الضاحية، انها ساحة لمرور العابرين المتعبين. الذين تتزيّن جباههم بعرق التعب، وتلهج صدورهم بشكر النعمة. وهي أكثر من ذلك، هي محطة العزة والاعتزاز، بـ «أشرف الناس» وأقدس الناس، الناس الذين جاؤوها من كل حدب، وقفوا على أنقاضها الشاهدة والمجيدة بجدارة. رأوا فيها منارات وقباباً ومآذن. كبَّروا جميعاً وقالوا: «لبيك» يا بلاد.

حدث ذلك بعد عدوان بربري. أغارت طائرات على الحجر والبشر. تشبّهت بـ «قانا» ثم علت عليها شهادة وصموداً. جرَّب العدو أسلحته. لم تركع. لم تستسلم. لم ترفع الرايات البيض. من الركام خرجت… سبحان الحياة، كبرت الضاحية أكثر، صارت عاصمة من عواصم العرب، ولو لفترة. الانقضاض المذهبي شوَّه التاريخ وقزّم الصورة. ولكنّها، ظلت كبيرة. صار الركام فيها مزارات للمؤمنين بالحجر والبشر. علت الضاحية. صارت علماً يجوب الأزرق الكبير. ازدحمت الأرض المفرغة بالقتل والقصف، بشيوخ ونساء وأطفال، قالوا جميعاً بملء حناجرهم، صدحوا بعمق أرواحهم، قالوا: «لبيك نصرالله». كانوا مستعدّين لوراثة الملحمة، وللسير في المأساة، حتى ينبلج الفجر الفلسطيني الجديد.

في سيرة الضاحية أنّها جلجلة متكرّرة… قاتل الله الفتنة. كانت على وئام صعب مع المحيط القريب والبعيد، لما في لبنان من أحقاد، وعند العرب من مذاهب. صيغت تهمة التشيُّع. لم تعد أيقونة المقاومة كما كانت للعرب، ناساً وحكاماً. كأن الناس على دين ملوكها. تبعوهم حذو الحقد بالحقد. وبدأ الحصار. مذهبوا المقاومة بعد انتصاراتها. انتصارات أُهديت للأمة، دولاً وشعوباً… يا لعار أمة، أنكرت الانتصار وفضّلت تبني الهزيمة. أغرقت الأمة في فتنتها. لم يأخذها الانتصار إلى «مقام تحت الشمس». فضلَّت خسارة غرناطة، وكانت الخسارة فادحة.

بالأمس، وقبلها بشهور، تحوَّلت الضاحية هدفاً. الإرهابيون يتصيّدون ناسها وأبرياءها. أبشع وسائل القتل، جاؤوا بها، وأبشع مِن قتلهم، نفوسهم المترعة بسموم الحقد. وأبشع من انتحارهم، تحويلهم العقائد حراباً، وتوظيف الإيمان في السفك…

خلف القتلة، عواصم من الحقد الأسود. لو كان الخلاف بين سنّة وشيعة، لصحَّ الاعتزال وتحميل الاثنين تهمة الفتنة. ولكنها ليست كذلك. هؤلاء القتلة، يقتلون السنة. دماء السنّة تكرج كالماء. هؤلاء، دينهم قتل وربهم قاتل وخليفتهم سفاح. عار على أمة أن يتبنّى بعضها «داعش» و «نصرة» وجيوش فتوحات الجريمة.

حسناً فعل اللبنانيون هذه المرة. وجدوا الحد الأدنى ووقفوا عنده. الإدانة شاملة. أصوات النشاز لا يعتدُّ بها. فيما تكبيرها يفيد نشازها.

حسناً ستفعل المقاومة. حربها في سوريا، كانت حجة ضدها، لدى لبنانيين استهانوا بالإرهاب. الخلاف على النظام في سوريا مشروع. الخلاف على الإرهاب حرام.

لبنان مدعوّ إلى تكريس اتفاقه السياسي المؤقت، باتفاق وطني دائم، عنوانه الحرب على الإرهاب، بشراكة الجميع، من دون ولكن.

كل العزاء لأهالي الشهداء. عند ربّهم يُرزَقون، وعند شعوبهم يُرفَعون. والشفاء العاجل للجرحى. هذه ضريبة لا بد منها. من دونها، على لبنان واللبنانيين السلام.