“خطأ شائع”(1)
أخطاء شائعة كثيرة يستند إليها المحللون لتفسير أسباب الحرب الأهلية، فيستخلصون منها دروساً بالمقلوب، ويشوّشون بالتالي خريطة طريق الثورة نحو المستقبل. يستوقفنا منها في هذه المقالة اثنان، عدوان الناصرية على السيادة اللبنانية خلال العقدين السابقين على الحرب الأهلية، وحروب الآخرين على أرضنا منذ سبعينات القرن الماضي.
هذا النوع من التحليل ينكأ الجراح بدل أن يداويها. “حروب الآخرين على أرضنا” أفضل سبيل لإعفاء المتحاربين في الداخل من مسؤوليتهم. يبرّئهم وينقذهم من النقد الضروري الذي كان ينبغي أن يحصل بعد اتفاق الطائف ليبتعد صناع الحرب عن واجهة المشهد السياسي مفسحين المجال لسواهم من صناع السلام ليعيدوا بناء الوطن والدولة.
استظلّ أمراء الحرب بهذه العبارة لينأوا بأنفسهم عن المسؤولية واعتمدوا التهجّم على عدو خارجي، فصار أتباع “حزب الله” يعلنون الويل والثبور وعظائم الأمور على السعودية وإسرائيل حتى في القضايا المتعلقة بالفساد السياسي والمالي، فيما يشنّ خصومه الحرب الكلامية على إيران ويطالبون بتحرير لبنان من الاحتلال الفارسي. العبارة الشهيرة التي اعتمدها الجميع لرمي المسؤولية خارج الحدود قالها نبيه بري وحمّل فيها ذات يوم وزر الأزمة واستعصاءها وحلّها على الصراع السوري السعودي: سين سين.
لا شك أن “الآخرين” لم يقصّروا في تدخلهم في الشأن اللبناني، ومن المؤكّد أن تدخّلهم لن يتوقّف في المستقبل. الخارج يسعى وراء ما يرى فيه مصالح بلاده، أما استدعاؤه واستدراجه للتدخّل فهو خيانة وطنية موصوفة، لأن الهدف منه تحقيق مصالح فئوية على حساب مصلحة الوطن. في الحرب اللبنانية نماذج يندى لها الجبين عن تجارب الاستدراج تناوب عليها اليسار اللبناني حين استقوى بالسلاح الفلسطيني، وقوى السلطة حين استقوت بالنظام السوري وبالجيش الإسرائيلي، وآخرها استقواء الشيعية السياسية بنظام ولاية الفقيه.
الخطأ الشائع المعمّر الذي ربما تكون قد تحدّرت منه كل الأخطاء المماثلة هو ذاك المتعلّق بأحداث 1958 ودور الحركة الناصرية والسفير المصري عبد الحميد غالب. لم يكن غريباً أن يعبّر فريق من اللبنانيين عن ميل عاطفي إلى العمق العربي، وأن يرى في عبد الناصر بطلاً قومياً انشدّت إليه الأبصار وعلّقت عليه جماهير الأمّة آمالها، وخصوصاً في أعقاب النكبة ونتيجة دور الدول الغربية في تأسيس الكيان الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني.
فضلاً عن ذلك، الخطأ الشائع ذاته المتعلّق بالمخاطر الخارجية أخفى عن أعين المتحمّسين الخطر الناجم عن الاستبداد الداخلي السياسي والديني الذي استهلّته الجيوش في انقلاباتها على الديموقراطية في العراق عام 1936 وسوريا عام 1949 ومصر بقيادة عبد الناصر عام 1952.
كذلك لم يكن غريباً أن يخشى فريق آخر على لبنان ودولته الفتية من مخاطر المدّ القومي، وذلك لاعتبارات تتعلّق بسياسة السلطنة العثمانية، فيتحصّن خلف خطأ شائع آخر يرى أن لبنان بلد عريق في التاريخ تأسّس منذ الفينيقيين. والحقيقة أن الوطن الذي حمل اسم لبنان ليس ذاك الذي ورد ذكره في التوراة وتداولت الكتب عنه بحكايات عن اختراع اللغة وعن الصباغ الأرجواني وعن جبيل وصور، وبرع الشاعر سعيد عقل في تمجيد تاريخه، ولا هو مرقد العنزة ومربط الإبل ونتاج الفتوحات العربية، بل هو ثمرة قرار المنتصرين في الحرب العالمية الأولى القاضي بتقاسم “تركة الرجل المريض” وتشكيل أوطان جديدة من الولايات التي كانت خاضعة للسلطنة العثمانية، وإعلان لبنان الكبير عام 1920 والدستور اللبناني عام 1926.
السلطة السياسية التي رافقت نشوء الوطن اللبناني عالجت ظاهرة التنوع في لبنان وضبطتها، كان ينبغي أن تستمرّ في استيعابها بعد العدوان الثلاثي على مصر وقيام الوحدة السورية المصرية، وقد أثبتت خيمة الحدود التي جمعت فؤاد شهاب وعبد الناصر أن ذلك أمر ممكن، لكنها، أي السلطة، هي التي ألغت التسوية الاستقلالية التي أسّست للحياد وهي التي دشّنت سياسة توريط لبنان في أحلاف ما وراء الحدود وسعت إلى الاستعانة بالخارج واستدراجه.
هذه الحقيقة لا تنفي عن تلك الفترة تحقيق إنجازات كبرى كان من أهمها أن كميل شمعون استبق بعض الديموقراطيات الأوروبية، ومن بينها سويسرا، في منح المرأة حق المشاركة في الانتخابات النيابية ترشحاً واقتراعاً، وقت كانت مصادرة كتاب “الجنس الآخر” l,autre sexe للكاتبة سيمون دو بوفوار، أفضل تعبير عن تقييد السلطات الفرنسية حرية التعبير ومحاصرة الديموقراطية.
إذا اختار الجمهور موقفاً خاطئاً بحق الدولة تتولّى السلطة الدفاع عن الدولة، أما حين تخطئ السلطة فالدولة هي التي تدفع الثمن. وقد تتعدّد الأخطاء الشائعة يميناً ويساراً بتعدّد المعايير، لكن معياراً وحيداً يحول دون تكرارها ويصون الوحدة الوطنية هو احترام سيادة الدولة والالتزام بالقوانين وبأحكام الدستور.