IMLebanon

خلاف مثلّث داخل المكوِّن السيادي

 

لم تنجح القوى السيادية الحزبية والفردية في الاتفاق على رؤية متكاملة لنظرتها الوطنية، وقد اقتصر اتفاقها على الجانب السيادي من دون الأبعاد الأخرى ومع تفاوت أيضاً في الترجمة العملية للشق السيادي.

 

شكلّت 14 آذار علامة فارقة في الحياة السياسية لجهة كونها حركة ممثلة لبيئتها المجتمعية وعابرة للطوائف في سابقة بعد الحرب الأهلية واستمراريتها في زمن الوصاية السورية، وقد نجحت في استعادة جزء من القرار السيادي للدولة اللبنانية، وفي التأكيد أنّ في استطاعة اللبنانيين الاتفاق على ثوابت وطنية ونظرة مشتركة الى دور لبنان.

 

ولكنّ حركة 14 آذار لم تنجح في تطوير نظرتها لتشمل كل جوانب الدولة اللبنانية، وفي هذا السياق يمكن الحديث عن ثلاثة خلافات بنيوية داخل هذه الحركة:

 

ـ الخلاف البنيوي الأول من طبيعة سيادية، إذ لا يكفي الاتفاق على هدف تحقيق السيادة، إنما وجِب الاتفاق على سبل الوصول إلى هذا الهدف، وإذا كان هذا الموضوع محسوماً في السنوات الأولى للحركة الاستقلالية على رغم من التفاوت في مقاربة كل طرف شكلاً ومضموناً، إلّا انه تحوّل مع التسوية الرئاسية خلافاً فعلياً لا يجب الاستهانة به على رغم من وجود أكثرية مع التسوية وأقلية ضدها.

ولا حاجة الى التأكيد انّ التسوية تشكل جزءاً لا يتجزّأ من مسيرة الحركة الاستقلالية التي انطلقت في 14 آذار 2005، بل قد تكون التسوية الأفضل مقارنة بـ»اتفاق الدوحة» او حكومة ما بعد انتخابات عام 2009 او ما عُرف بالـ» سين – سين»، ولكن من حقّ أيّ طرف الخروج عن هذا المسار، إلّا انّ خروجه بقي في الإطار الإعلامي في ظل عدم قدرته حتى اللحظة على تأسيس إطار معارض جديد.

 

ومن المهم القول انطلاقاً من النقطة الأولى انّ الحركة السيادية أصيبت في العقدين الأخيرين بثلاث نكسات: النكسة الأولى مع انفراط عقد «لقاء قرنة شهوان» مع انتخابات العام 2005 وتفرّق مكوّناته بفعل قانون الانتخاب والتحوّل الكبير الذي دخلت فيه البلاد. والنكسة الثانية مع خروج «التيار الوطني الحر» من التوجّه السيادي. والنكسة الثالثة مع انفراط عقد 14 آذار الإداري، فيما كان في الإمكان مع بعض الجهد الحفاظ على هذا الإطار.

 

وفي موازاة الأحزاب الثلاثة «القوات» و»المستقبل» و»الإشتراكي» والتي حافظت على النهج المؤسس لحركة 14 آذار لجهة الموازنة بين السيادة والمساكنة، برزت ثلاثة توجّهات أقلوية: توجه إلى معارضة مطلبية، توجه إلى معارضة وطنية فردية في مواجهة التسوية، وتوجه متمسك بعلاقاته مع جميع المكوّنات السيادية.

وما يجب التشديد عليه أنّ الاتفاق على العنوان السيادي غير كافٍ، لأنّ الأساس يكمن في الاتفاق على طريقة الوصول إلى هذا الهدف.

 

ـ الخلاف البنيوي الثاني، يتصل بالجانب الميثاقي، أي الشراكة المسيحية-الإسلامية، وهذا الجانب كان مهملاً كلياً، وقد اضطرت «القوات اللبنانية» إلى خوض مواجهات شرسة من دون، ويا للأسف، الوصول الى نتيجة فعلية، ولولا انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية بمساهمة أساسية من «القوات» لما تصحّح هذا الخلل الميثاقي الكبير والفاضح.

 

فطغيان الجانب السيادي لا يعني إهمال الشق الميثاقي الذي لا قيمة للبنان من دونه، والمشكلة على هذا المستوى كانت بنيوية وعميقة واستراتيجية في ظل إهمال متعمّد أولاً، وخلفية مصلحية هدفها الإبقاء على الخلل ثانياً، وعقل سياسي لا يقيم وزناً للجانب التمثيلي ثالثاً.

 

وهذا الجانب ليس تفصيلاً، والالتقاء السيادي لا يعني أبداً غض النظر عن مسألة تتعلق بمعنى لبنان ورسالته وجوهر وجوده، فضلاً عن أنّ الوزن التمثيلي المسيحي يترجم بتعزيز الدولة وحضورها ودورها، ويستحيل الكلام عن دور وطني مسيحي من دون وزن تمثيلي، فالفاقد للوزن هو فاقد للتأثير وغير قادر على فرض إيقاعه الوطني ويتحوّل مجرّد رأي فكري أو تعليق صحافي أو ديكور سياسي.

 

ـ الخلاف البنيوي الثالث داخل الحركة السيادية، يتعلق ببناء الدولة، وهذا الجانب مهم جداً أيضاً، فلم يشعر مثلاً الفرد المنتمي إلى الحركة السيادية أنّ إدارة الدولة في المرحلة التي أعقبت خروج الجيش السوري من لبنان اختلفت عما قبلها، بل كانت استمرارية للسلوك نفسه، ولا يكفي التذرّع بصعوبة المرحلة وانقساماتها، وهي صحيحة وفعلية، ولكن لم تعطِ أيّ إشارة الى انّ لبنان دخل في نهج مؤسساتي جديد، وهذا النهج لو إتُّبِع لكان كفيلاً بضم فئات واسعة غير مبالية الى الحركة السيادية.

 

والكلام عن انّ استعادة السيادة تشكل المدخل الى بناء الدولة غير دقيق، فصحيح انّ مرجعية الدولة تُسهِّل هذه المهمة بعيداً من منطق الاستقواء والحمايات وتجاوز القانون، ولكن هذه المسألة تنمُّ أيضاً عن ثقافة ونهج وممارسة، وعدم القدرة على تطبيقهاً كلياً لا يعني الاستقالة من هذه المهمة والتسليم بالأمر الواقع، والأسوأ تعميم عدوى الفساد بحجة عدم القدرة على استئصاله.

 

لا يمكن تحقيق الشعار الذي رفعته حركة 14 آذار «العبور الى الدولة» من دون أن يكون هذا العبور سيادياً وميثاقياً وإصلاحياً، فيما كل التركيز في المرحلة السابقة كان على الجانب السيادي ومن دون إعطاء ايّ أهمية للجانب الميثاقي والإصلاحي، وبالتالي من مكامن الضعف الأساسية للحركة الاستقلالية انها لم تنجح بتشكيل حركة تهتم بكل أبعاد المسألة اللبنانية، والحراك المدني لم يخرج إلّا نتيجة شعوره انّ 8 و 14 آذار لا يجسّدان تطلعاته في بناء دولة تحترم الانسان وكرامته وتوفِّر له المستلزمات البديهية بمعزل عن النزاع القائم والذي سيتواصل فصولاً ويأخذ في كل مرحلة عنواناً معيّناً.

 

فالسيادة منتهكة منذ العام 1969، وقد تبقى كذلك لسنوات وعقود، ولا يجوز إهمال ايّ جانب يؤثر في بقاء المواطن في أرضه وبلده، كذلك لا يمكن إهمال ايّ جانب يعزّز دور الدولة وحضورها، والوضع اليوم أفضل بعشرات المرات من الوضع الذي كانت عليه البلاد إبان الوصاية السورية للبنان.

 

فالالتقاء العفوي بفعل الظروف والأحداث والتطورات يمكن أن يحصل في كل وقت وحين ولحظة، لأنه ينمّ عن حاجة وجودية، وبالتالي في حال استدعت الظروف إعادة توحيد صفوف الحركة السيادية ستتوحّد، ولكن هذا الأمر لا يحجب فشلها في الخروج بمقاربة وطنية مشتركة وشاملة لطريقة تحقيق السيادة، وتثبيت الشراكة وإعلاء الإصلاح.