في الخامسة والتسعين من العمر، يشعر النائب والوزير السابق عثمان الدنا كأن الكثير لم يتغيّر عندما يراقب القضاء اليوم. القاضي الآتي الى السياسة بعد 13 عاماً من مكوثه في ذلك السلك، يشهد على قضاء كان يشبه رجال المرحلة تلك، شأن قضاء اليوم يشبه رجال مرحلته
دخل عثمان الدنا الى القضاء عام 1947، واستقال منه عام 1960 كي يترشّح للنيابة ويمسي نائب العاصمة، حليفاً للرئيسين صائب سلام وعبدالله اليافي تارة وخصماً لهما طوراً. الرجل من رعيل قضاة اضحوا نواباً كسامي الصلح وسليم تقلا وجان عزيز وفؤاد بطرس وانور الخطيب وعبده عويدات وسليم حيدر ورشيد الصلح وبشير الاعور وكثيرين سواهم، اختبروا التجربتين غير المطابقتين تماماً. لكنه يكتشف، كما كثيرون قبلاً وكثيرون الآن، انهما تتشابهان احياناً. يحلو لكثيرين كذلك – وربما الغالبية – ان يجدوا في السياسة على الدوام وجهاً بشعاً. بيد ان الامر ليس سهلاً عندما يبصرون في بعض الاحيان وجهاً بشعاً للقضاء.
عثمان الدنا من اولئك الذين خبروا الوجوه المتعددة لبعض القضاء، والتدخّل السياسي في شؤونه. لكن ايضاً حينما يكون في خير.
على ابواب المئة. يقول انه مولود عام 1924. الا ان بطاقة الهوية تورد انه من مواليد 1921. في كل حال الرجل، في النصف الثاني من العقد التاسع، لا تزال تقيم في ذاكرته – وهو يراقب اليوم ما يُثار عن حملات مكافحة الفساد وخصوصاً في القضاء – صوَر ما جرّبه، قبل ان يستخلص عبارة مقتضبة قيلت حينذاك وهي في عزّها اليوم: «لا قضاء مستقلاً في لبنان. لا قبل ولا الآن».
ليست القاعدة قاطعة الا بمقدار ارتباطها بالرجال. هم المسؤولون الذين يتورّطون في شؤونه، او ينزّهونه عنهم. تكاد لا تفارق الدنا حادثتان حصلتا في وقت متقارب، حينما عُيّن في منصب معاون المدّعي العام في بيروت في ظل المدّعي العام احسان بيك المخزومي، وفي الوقت نفسه مستشاراً في المحكمة العسكرية (1952 – 1959). من بين المستشارين الضباط الذين رافقوه في المحكمة العسكرية جميل الحسامي ويوسف شميّط واسكندر غانم.
يروي: «عندما تصدر المحكمة العسكرية قراراً لا تعلله، وليست ملزمة تعليله. بريء او مذنب. في احد الملفات المطروحة امامي عام 1953 وجدت الرجل مذنباً، بينما قال الضباط المستشارون في المحكمة انه بريء. قلت لهم: اتخذوا القرار الذي تريدونه وانا اخالف. أرجئَ الحكم اسبوعاً للتشاور. في هذه الاثناء زارني رئيس الشعبة الثانية انطون سعد في مكتبي في المحكمة العسكرية، وفاجأني الاستقبال المهيب له عند المدخل. سألني عن الملف. قلت: الرجل مذنب. قال: ماذا يعني؟ قلت: الادانة. الآخرون يقولون انه بريء. افعلوا ما تريدون لكنني سأخالف القرار. قال: الرجل يخصنا. دبّرها. قلت: يخصكم انتم ولا يخصني انا، ولا يخص العدالة التي امثلها. تعرف موقفي. إفعل ما تريد وأفعل انا ما اريد. برِّئوه اذا بدكن. قال: نريد البراءة بالاجماع. عندما حان اوان الجلسة التالية للحكم، فاجأني ان الضباط المستشارين غيّروا رأيهم، ووافقوني على قرار الادانة. وهذا ما حصل. لم افهم سرّ التحوّل بعدما اتى انطون سعد. علمتُ لاحقاً ان قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب علم بما حصل، وتدخّل وأنّب سعد على ما فعل معي. كان الجنرال يستقبلني مرة واحدة في السنة للاطلاع على احوال المحكمة العسكرية. طوال ساعتين يسألني عن شؤونها وتصرّف الضباط وماذا يجري فيها. في المقابلة التي تلت حكم الادانة، انتهزت الفرصة كي اسأله كيف عرف بما حدث. اجابني باختصار: لدينا عيون وآذان في كل مكان».
شهد تدخّل الشعبة الثانية ووزير العدل والقصر الجمهوري في القضاء
في الحادثة الاخرى المعبّرة، لم يكن رجال الشعبة الثانية هم المتدخّلون فيها. بل السياسيون وخصوصاً الوزير المختص، ورأس هرم القضاء منحازاً الى الوزير ضد القاضي: «عام 1955 لاحقت رئيس الضابطة الجمركية وآخر معه، واحلت التحقيق معهما على قاضي التحقيق جورج نجيم. درس الملف وأعاده إليّ وتداولت معه فيه، على الاثر ادّعيت على الرجلين وأوقفتهما. بعد ظهر ذلك اليوم تلقيت مكالمة هاتفية، قيل لي انها من القصر الجمهوري في القنطاري. خُيّل اليّ ان الرئيس كميل شمعون يريد التحدث معي. المفاجأة ان وزير العدل شارل حلو هو الذي كان على الخط الآخر. سألني عن الموقوفين وقال انه يتكلم من القنطاري، كأنه يوحي بتغطية الرئيس للمكالمة. سأل ايضاً: هل اوقفتهما؟ رددت بالايجاب. سأل: كيف؟ اجبت: مذنبان. قال: دبّرها. حاول الضغط عليّ لاطلاقهما، فلم أستجب. قلت: القضية ليست نظيفة ولا مصلحة لنا في التدخّل فيها. لم يُجب. بعد خمس دقائق خابرني المدّعي العام التمييزي فرنان ارسانيوس: لماذا زعّلتَ الوزير؟ شرحت له ما حدث، فردّ بعبارة مماثلة لعبارة شارل حلو: بدنا ندبّرها. رفضت، فقال: ما رأيك في ان ارسل اليك المرتكب الفعلي. قلت: هذا امر آخر ومختلف. هاته. اذا كان ثمة مرتكب حقيقي لم نعرف به، وحصل خطأ منا في الاتهام، نصححه. أرسِله. بالفعل حضر في وقت لاحق من بعد ظهر اليوم نفسه ضابطان. استدعيت جورج نجيم، الملم بالتحقيق، وطلبت منه الاستماع اليهما. للفور تأكد انهما كبش محرقة، يجهلان الكثير من تفاصيل المشكلة، فأدليا باعترافات مغلوطة مرتبكة، مناقضة لمسار التحقيق بسبب جهلهما الملف. ادعيت عليهما واوقفتهما لمحاولتهما تمويه الفاعل الرئيسي الذي هو رئيس الضابطة الجمركية. لم ينقضِ اسبوع علمت بوجود مرسوم نَقلٍ لي وجورج نجيم من منصبينا».
لا يفوت الدنا القول وهو يسرد وقائع شتى: «القضاء هو نفسه في كل زمان واوان. فيه اوادم. لكن ليسوا كلهم اوادم. من فوق الى تحت».