أوقفت استخبارات الجيش أشخاصاً في شبهة نصب واحتيال. اعترف الموقوفون بدفع رشى لضبّاط وعناصر في قوى الأمن الداخلي للحؤول دون توقيفهم ومن ثم لفلفة ملفاتهم، إضافة إلى «الاهتمام» بهم لاحقاً. استكمل فرع المعلومات التحقيق واستجوب هؤلاء الضبّاط والعناصر. أُحيل الملف على القضاء، فأوقَف المدعى عليهم بدفع الرشى، لكنّه عجز عن توقيف المشتبه في كونهم المرتشين. يُصرّ المدير العام لقوى الأمن الداخلي، اللواء عماد عثمان، على رفض إعطاء الإذن للقضاء بملاحقة ضباط يُشتبه في تورّطهم في ملفات فساد… وذلك لحسابات سياسيّة
رغم مرور ثلاثة أشهر على توقيف كلّ من عصام ض. وحسام ح. وآخرين بجرم دفع رشى لآمر مفرزة بعبدا القضائية وضبّاط وعناصر آخرين من المفرزة نفسها، لم يُفلح القضاء، إلى اليوم، في إقناع المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، بمنح الإذن بملاحقة الضباط والعناصر المشتبه فيهم. إذ لم يردّ عثمان على مراسلة قاضي التحقيق الأول في جبل لبنان، نقولا منصور، للاستفسار في شأن إذن الملاحقة الذي طلبته النائب العام في جبل لبنان القاضية غادة عون. ولذلك، لم يكن في إمكان القضاء أن يستمع إليهم إلا كشهود. المفارقة في هذا الملف، على المستوى القانوني، توقيف الراشي في ظلّ عدم وجود المرتشي! وتكوّن قناعة لدى القضاة بوجود جُرم الرشوة، ولو شبهة، لكنهم يُمنَعون من ملاحقة المشتبه فيهم بتقاضيها. علماً أن التحقيقات التي أجرتها الضابطة العدلية، ثم قاضي التحقيق، تضمّنت اعترافات من الموقوفين (فضلاً عن الشهود) بدفع الرشى باليد لآمر المفرزة العقيد ع. غ. وآخرين يعملون تحت إمرته. وتقاطعت هذه الاعترافات مع أدلّة تقنية. كما كشفت التحقيقات أنّ العقيد المذكور تعرّف على المدّعى عليهم داخل المفرزة، ونشأت بينه وبينهم «صداقة» متينة، وصلت حدّ تبادل اتصالات شبه يومية، فضلاً عن تلقّيه «هدايا» منهم، وزيارته في مكتبه. وبيّنت التحقيقات أيضاً أنّ المشتبه فيهم باتوا يسعون إلى نقل ملفات الدعاوى المرفوعة ضدهم إلى مفرزة بعبدا تحديداً، نتيجة الرعاية التي يتلقّونها هناك، حتى أنّ أحدهم كان يتّصل بالعقيد طالباً منه وضع اسمه على الباب ليُسمَح له بالدخول إلى السراي وركن سيارته، رغم أنه من ذوي الأسبقيات الجرمية. وأبلغت زوجة أحد الموقوفين القاضي، في إفادتها، أنّ زوجها أوهمها بأنّه يعمل بالصيرفة، لتكتشف لاحقاً أنّه ينشط في النصب والاحتيال على الخليجيين، وأنه دفع المال ليكفّ رجال التحرّي عن ملاحقته.
وفي معلومات حصلت عليها «الأخبار»، أفاد الموقوف عصام ض. في التحقيق معه أنّه أهدى العقيد هواتف خلوية في مناسبات عدة، بهدف توطيد العلاقة معه، وأنّه دفع له باليد مبلغ خمسة ملايين ليرة للتوقّف عن ملاحقة صديقه محمد س. (الذائع الصيت في عمليات النصب والاحتيال)، على خلفية استيلاء الأخير على ٤٠٠ مليون ليرة من شخص اسمه سمير ع. (تقدّم بادّعاء في ذلك). نفى عصام أنّ يكون دفع أيّ مبلغ مالي لأيّ من العناصر أو رتباء التحرّي في بعبدا، عازياً الأمر إلى كونه على «علاقة مباشرة مع العقيد». إفادة عصام تقاطعت مع إفادة صديقه محمد، الذي أكّد أنّه بعد دفعه المال للعقيد توقّفت ملاحقته من قِبل عناصر التحرّي، وبالتالي لم تعد الدوريات تدهم منزله. وذكر الأخير أنّ شريكه حسام ح. في جرائم النصب والاحتيال تُرِك لقاء سند إقامة، بعدما «سوّى وضعه» مع آمر المفرزة، قائلاً إنّ حسام دفع مبلغ ٤٠ مليون ليرة لذلك.
وتمكّن المحققون من محاصرة العقيد آمر المفرزة، إذ تبيّنَ من تحليل اتصالاته أنّه كان على تواصل مع المشتبه فيه عصام ض. في أيام سريان مفعول بلاغ البحث والتحرّي، أي عندما كان الأخير مطلوباً. أحد الموقوفين ذكر أنّ العقيد، أثناء تواصلهما، طلب إليه عدم الاتصال به مجدداً على رقمه المعروف، على أن يتواصل معه عبر تطبيق «الواتساب» على رقم آخر زوّده به.
ذات مرّة، وبحسب ما تُظهر المعلومات، تبيّن أنّ أحد المحتالين وظّف درّاجاً من قوى الأمن الداخلي لمصلحته، بغية مساعدته في عمليات الاحتيال. فكان، على سبيل المثال، يُعطيه مواصفات السيارة التي يُريد عرقلتها، فيوقف الدرّاج سائقَها لفترة تُمكّن شريكه من الابتعاد. الموقوف محمد س. سرد أنّه دفع لدرّاج من قوى الأمن، يلقّب بـ«أبو عيسى»، 400 دولار ليوقف المدّعي س. ع. بغية تأخيره ليحول دون تمكّنه من اللحاق به. وفي المعلومات أيضاً، أنّ أحد المحققين من قوى الأمن، تولّى التحقيق مع مشتبه فيه بجرائم نصب واحتيال، كان يتردّد إلى مطعم الأخير بشكل دوري من دون أن يدفع الفاتورة. وبرّر رتيب التحقيق المعاون ط. ح. عدم الضغط على المدعى عليه حسام ح. خلال التحقيق لكون العقيد آمر المفرزة أصدر تعميماً يقضي بمنع الضغط على الأشخاص المدّعى عليهم في شكاوى مالية. كما أكّد أنّه تتم معاملة الموقوفين الذين تربطهم علاقة مميزة بالعقيد معاملة خاصّة. ولفت إلى أنّ معظم الدعاوى ضدهم تُنجز لدى مفرزة بعبدا، مشكّكاً بأن يكون حصل ذلك من قبيل الصدفة، معتبراً أنّ علاقة العقيد مع المشتبه فيهم وطيدة وغريبة. أكّد عدم تقاضيه رشاوى، لكنه ذكر أنّه كان يحصل على «هدايا» و«إكراميات» عبارة عن زجاجات عطور ومشروبات روحية من أشخاص مرتبطين بالتحقيقات. لم يقتصر التحقيق على إفادات المشتبه فيهم. فقد قصد الشاهد راجي ا. المدّعي العام كاشفاً أنّه اضطرّ لأن يدفع للعقيد خوفاً من تلفيق جرائم لشقيقه الذي أبلغوه بوجود وثيقة أمنية بحقه بشبهة حيازة أسلحة وفرض خوّة. وأوضح الشاهد أنّه دفع للعقيد بحضور الرتيب ط. ح. ونقيب من قوى الأمن الداخلي. وكان لافتاً أن أحد رتباء المفرزة المستدعى إلى التحقيق، وهو برتبة معاون أوّل، تعمّد عدم إحضار هاتفه الخلوي معه إلى التحقيق. وبرّر ذلك بأنّ على هاتفه بيانات شخصية لا يرغب مشاركتها مع أحد. وأقرّ أنّ عصام كان يتردّد لزيارة العقيد بغية «تسوية أوضاعه» وتسهيل أموره في التحقيقات التي تُجريها المفرزة.
وظّف أحد المدّعى عليهم درّاجاً من قوى الأمن الداخلي ليكون في خدمته مقابل مبلغ ٤٠٠ دولار
رغم كل ما تقدّم، وبعد التطمينات التي حصل عليها الضابط المذكور، خاصّة إثر زيارة أحد قيادات التيار السياسي الذي يدعمه للمدير العام لقوى الأمن الداخلي، حضر العقيد آمر المفرزة إلى القضاء كشاهد وبمظهر فيه الكثير من الثقة بالنفس. الضابط الذي تولى إمرة المفرزة منذ نحو خمس سنوات، حاول الالتفاف على أسئلة المحققين مراراً. واستبق المحققين بالقول إن علاقته ببعض المشتبه فيهم، واهتمامه بهم «كان هدفها جمع المعلومات». كما قدّم في إفادته إجابات متناقضة. ففي ما يتعلق بـ«الوثيقة الصادرة عن استخبارات الجيش بحق عدد من الأشخاص الذين لديهم سوابق وأعمال احتيالية، ومن بينهم محمد س. الذي يغطيه آمر مفرزة بعبدا القضائية»… برّر اتصاله ببعض المدعى عليهم المعنيين في هذه الوثيقة، معترفاً أنّه تلقّى «هدية» عبارة عن هاتف خلوي من المدعى عليه «على سبيل التعارف». وأنكر أن يكون قبض مبالغ مالية. لكن التحقيقات بيّنت أنّ العقيد كان يوفّر الحماية لهؤلاء للاستمرار بالقيام بعمليات الاحتيال التي تطال أبرياء، وكشف التحليل التقني وجود عشرات الاتصالات بين العقيد والمشتبه فيهم، ومكوث أحد «المحتالين» ست ساعات في إحدى المرات داخل المفرزة، من دون مُبرّر، أثناء التحقيق مع إحدى السيدات. كما بيّنت المتابعة التقنية وجود اتصالات كثيفة بينه وبين تجار عقارات وأحد المرابين.
إفادات الموقوفين كشفت أيضاً وجود بعض السماسرة من المحامين الذين يتولون دور الوسيط في دفع الرشى للعقيد، علماً بأن التحقيقات أظهرت أن علاقة العقيد ببعض المشتبه فيهم سابقة لعلاقته بالمحامين. وقد طلب قاضي التحقيق الأول في جبل لبنان نقولا منصور من نقابة المحامين منحه الإذن بملاحقة ثلاثة محامين مشتبه في تورطهم في هذه القضية. وبيّنت التحليلات التقنية أنّ العقيد على علاقة وطيدة بمحامية تتلقى منه «المساعدة» لمصلحة موكّلها، وأنه تواصل معها أكثر من ٣٠٠ مرة، إضافة إلى وجود رسائل بلغة الأمر من جانبها، تطلب فيها منه الاتصال للضرورة وأخرى تُعلمه فيها عن موعد عودتها من السفر.
من ملف : مكافحة الفساد في قوى الأمن: أسطورة!