«طفح الكيل»: المسيحيون رفعوا شعار «المحرومين». الشيعة يتبرّأون. السنة بين بين. الدروز معتصمون بالصمت. اجتماعات على مستوى القمة، «روحياً» وسياسياً. مؤتمرات صحافية دفاعية. تفنيد مسيحي بالأرقام: نستحق أكثر من 31 في المئة من الوظائف. المناصفة في خطر. وزراء مع ووزراء ضد. فُتِحَت المغارة وبان بطن ما فيها: آكل ومأكول. الفساد لا قيمة له. الكفاءة ليست ذات جدوى. المواقع الحساسة والدسمة والمغرية والمجزية، هي الأساس. عليها يحدث التصارع والتكالب. ما تبقى من الإدارة، «بروليتاريا» مظلومة ومضطهدة. هذا هو لبنان. لم يُسمع صوت أحد، من المرجعيات الروحية والطائفية والسياسية في أزمة النفايات. تفرّجوا على الحراك فقط. ما كانوا خائفين. خيوط اللعبة السياسية تحيك المخارج. آخرها، تصدير أغلى نفايات في العالم، بأموال لبنانيين متساهلين مع قادتهم، علماً، أن القادة يعاملون أتباعهم، كنفايات سياسية.
نكاد ننسى أن اللبناني ليس موجوداً، إلا في اللغة والخطاب الرسمي والتخاطب الإعلامي الكائن اللبناني الحيّ مفقود من زمان، مع أنه موجود جداً. يعضّ على انتمائه ولا يندم. إنسان سويّ في مجتمع ملتوٍ ومنحنٍ ومتهاوٍ. هو غير موجود بصفة مواطن. بدائل كثيرة عنه، أفضل منه خدمة وولاء وطاعة والتزاماً، حتى رمق الضمير. بدائل أنتجتها «المكوّنات» العادمة للوطن والمنشئة «للهويات القاتلة». اللبناني، أُبعد إلى المنفى الداخلي. مَن يضبط نفسه متلبّساً لبنانيته، فلا يجد وطناً باسم لبنان. الوطن اللبناني مستحيل لمواطنين أحرار. هذه مزرعة وزرائب بشرية. البديل عن الوطن، مستوطنات طائفية ومذهبية بشرعية الاغتصاب وقوة الاحتلال. مستوطنات لائقة برعاع الطوائف والمذاهب. ويسألونك لماذا وصل «لبنانهم» إلى أسفل السفلة والسافلين؟ يلتقون على العار، يخافون عليه، والاقتباس من الشاعر عمر أبي ريشة: «خافوا على العار أن يُمحى/ فكان لهم لدعم العار مؤتمرُ».
المؤتمرات والحوارات اللبنانية سجال، وقيل وقال، كي تظل المزرعة مصانة المآل ومغدقة الأموال. مؤتمرات لتبييض الصفحات السود. فلا شيء يعود بالنفع إلا لهم. ويسألونك عن لبنان. لا شيء ينقذه من الاحتلال المتمادي لروحه. مختطف بلا فدية، ولا قدرة لأحد لاستنقاذه وإعادة الروح إلى ناسه. وعليه، لا قدرة لأحد أن يقنع أحداً: اتفاق الطوائف أو اختلافها سيَّان، لا ذاك ولا هذا ينشئان وطناً. طائفي + طائفي لا يساوي مواطناً، بل يساوي طائفيَّين. اتفاق تيارين طائفيين عن بكرة أبيهما، لا ينشئ برنامجاً وطنياً أو تفاهماً مؤسسياً. الطائفة لاغية بذاتها للوطن والديموقراطية والعدالة والمساواة والمحاسبة. الطائفة فوق الجميع. لذا، الطوائف موجودة. لبنان لا.
ماذا يعني أن تكون لبنانياً؟ أن تكون مسيحياً، مفهوم. أمامك تيارات وأحزاب وتجمّعات ومرجعيات روحية وزمنية، تلتزم بها. تسير في ركابها. تعتقد ما تعتقده. تسير في الصف ولا تنحرف، كل نقد مخالفة تستحقّ الفرز. أن تكون شيعياً. مفهوم. «شرحو». لغة واحدة بلسانين. أن تكون سنياً، مفهوم ومعلوم ولا ضرورة للشرح. أن تكون درزياً، أسهل الممكن. البيك هو أولاً وأخيراً وبين بين. أخطاؤه نياشين على صدور أتباعه. الآخرون، في الطوائف الرديفة، يقلدون «البيك» ولا يجيدونه. صعب أن تكون البيك: الواحد الأحد. الأقليات الأخرى لا حساب لها. هي ملحقة وراضية وحصتها مصانة… فماذا يعني، وسط هذه الخيارات الحاسمة والنهائية، أن تكون لبنانياً؟
في التقليد السائد، لا تكون لبنانياً، إلا إن كنت من قبل ومن بعد، منتمياً إلى طائفتك. المعبر الوحيد والإلزامي إلى «وطنهم» أن تدخل إليه من الرحم الطائفي. تأتي إليه، باسمك واسم عائلتك، والأهم، بلقبك الطائفي. مهم جداً أن تدخل بلدك بحمولة ثقافية طائفية، يتّحد مقعدك فيه. وعندها، دخولك الوطن، لا يضيف إليه، بل يأخذ منه. حصتك فيه مقررة. تنالها إن كنت قوياً بالتزامك وبجماعتك. لا حصة لك من خارجها. إن اعتدي على حصتك، يكفِ أن تصرخ: «يا غيرة الدين». هكذا، موظفة في المالية، أيقظت النعرة المتربّصة. خاف الجميع.
الفتنة تبدأ من هنا. من هذا الوضع الوضيع فقط.
لا بدّ من احترام الصيغة. قدس أقداس التلفيق الوطني والزنى السياسي. صيغة تنصف الطوائفية وتعتدي على المواطن، على حقه الطبيعي، كآدمي وإنسان. على حق المكوِّن الحر واللائق، المنتمي إلى بلده بهوية حضارية مركوزة على المواطنة. لا يمتّ بصلةٍ إلى تراث من مخلفات الفتن والحروب والضغائن والأحقاد والتكفير والنبذ والتمييز والاستقواء بالخارج الأجنبي أو المذهبي. لا بلد من دون هذه الصيغة ـ الصفقة.
يحدث أن ينهار البلد، أن تتساقط المؤسسات، أن تفرغ الرئاسة، أن يقفل باب المجلس، أن تهرهر الحكومة، أن يتفشى الفساد الأعظم، أن تتساقط القيم وأن تُهان الأخلاق. يحدث أن تتعاظم الديون وتزدهر النفايات وتتنامى هجرة الشباب. يحدث أن تصبح «داعش» على التلال، أن يزداد منسوب التعصّب، أن تُنتهك المواعيد الدستورية، أن لا يفتش التفتيش المركزي، أن يغمض ضميره واضباراته، أن يتحوّل القضاء ممراً للمرتكبين ومقراً للمظلومين، يحدث أن يصبح البلد كله فضيحة الفضائح، ومستباحاً استباحة مطلقة، ولا يحتجّ أحد من قادة الصيغة موارنة وسنة وشيعة ودروزاً وأقليات. إنما، إذا حدث ومُسَّت حصة طائفة، أو شُبِّه لها ذلك، فيا «غيرة الدين» وحذار من النار، الكيان كله في خطر. يحصل أن يُستدعى السفراء الأجانب للقاء المرجعية الروحية الموكل إليها، الحفاظ على مكتسبات وحصص الطائفة، من الرئاسة إلى الوظيفة إلى هلمَّ جراً.
نجحت الطوائف في أن تصبح عقيدة لبنان. هذا البلد لها وحدها. استثمرت تراثها الديني والقيمي الكامن فيها، فكوَّنت رأسمالاً استبدادياً ريعياً، عقارياً، غير خاضع لحساب أو مساءلة. الطوائف مترعة مالياً وغير مأزومة، ولا تتعرض للخسران ولو أفلس البلد. طوائفنا نفطنا الأبدي. يزداد ولا ينضب.
وعليه، لبنان محكوم بثنائية العائلات الروحية (الطوائف) والعائلات السياسية (الزعماء). صفقة تامة بين الاثنين. كل زعامة طائفية مدعومة بمرجعية دينية. المشهد واضح ولافت. لسنا وحدنا كذلك. في السعودية، صفقة بين العائلة المالكة والوهَّابية… لسنا وهابيين. ولكن، أحياناً نقلّدها. وننساق معاً إلى ما يقترب من الفتنة. تشابه بليغ في شكل الصفقة ومضمونها. ذروة التخلف، بربطات عنق وتراتيل تجوِّد الأقوال وتَذُبُّ عن الأفعال.