IMLebanon

بلدنا الرهيب»

في فيلم عُرض في الأشرفية تحت عنوان «بلدنا الرهيب» للكاتب السوري محمد علي الأتاسي ويتناول سياقات من «الثورة السورية»، سُئل المثقف ياسين الحاج صالح عن سبب بقائه في بلاده المدمرة ردحاً من الزمن، فأجاب أنّ دوره كمثقف هو البقاء إلى جانب شعبه وأنّه كان يرغب بمعايشة التغييرات التي لطالما تمنّى أن يراها في بلاده منذ أربعين عاماً.

حال الحاج صالح مخالفة لبعض مثقّفي المقاهي والمكاتب في لبنان الذين تحوّلوا بلا سابق إنذار، عاملين في ميادين الإغاثة. فجأة إرتفعت حساسيتهم تجاه «العنف»، وكان بعضهم نظّر له (العنف) في مواقف عدة من محطات البلد خلال الحرب الأهلية وقبلها. بل وقبلوا بـ»عزل» فئة من اللبنانيين وسمّوها «الإنعزالية»، بعدما هاموا حباً بالمنظمات الفلسطينية التي حلت بدلاً من الجيش اللبناني.

حساسيتهم صارت مرهفة حتى ليظنّ المرء أنهم لا يصغون إلّا إلى المعزوفات الموسيقية. في مطالعاتهم اليسارية النكهة عن النازحين واللاجئين السوريين، لبسوا لبوس اليسار الأوروبي. تناسوا (وكاتب هذه الأسطر) أنّ معظمهم وفد من التجربة اللينينية ـ الستالينية وحركات التحرّر والتحرير التي كانت تنبت وتتكاثر كالفطريات.

فجأة صُدموا بصور بُثت عبر مواقع التواصل الإجتماعي عن الجيش اللبناني خلال مداهماته لبؤر ثبت طغيان «داعش» و«النصرة» فيها على كل ما هو إنساني أو إغاثي.

ولم يحرّكوا ساكناً إزاء انتهاك التنظيمين الإرهابيين للسيادة اللبنانية، ورفع أعلام دولة الاسلام في مختلف المناطق. لم تعد الهوية الوطنية محلّ اعتبار أو ذات وزن في مقاربة الوضع. ولم تصدر أيّ «مطالعة عصماء» تقترح حلاً للفجوات الأمنية المتكاثرة جراء هذا الكم من اللاجئين.

التذكير بالماضي ليس تحدّياً أو تشفّياً بل دعوة إلى الصدق في السياسة. فالذين قالوا ما قالوه عن إحباطٍ أصابهم، ومجتمع لا تتوافر فيه شروط النهوض بوطنيته، لم يُطنبوا بشيء عندما قُتل مَن قُتل من الجيش والقوى الأمنية، أو مَن ذُبح ومُهدد بالمثل من رفاقهم.

لم تنهض مدوّناتهم و«سمعتهم الرقمية» بجديد يفيد في حماية السلم الأهلي الهش. هم انتصروا للّاجئين على حساب جيشهم الواقع في عين العاصفة جنوباً وشرقاً وشمالاً، فضلاً عن أنّ قوى طائفية ومذهبية في البلد صارت تفوقه عدداً وعدة.

في هذه الخرافة «الإنسانية» تنبّه غالبيتهم إلى أنّ مجتمعنا مهترئ إلى حدّ الرثاثة. هكذا مضَت الكتابات بلا سياسة وبلا إجتماع. لكن ما دام تاريخنا حافلاً بالكبوات، أو قل إنه موسومٌ بذلك، فمن أين ظهر هذا الكمّ من جهابذة الحس الفكري المرهف فيما بلاد العُرَب والإسلام غارقة في جهل سماته «حزب الله» و«داعش» و»النصرة».

الحق أنّ بلدنا هو «الرهيب». فمجتمعنا لم ينتج شرائح ديموقراطية وليبرالية تنهض بوعي فكرة الدولة واحتكارها العنف، وحقّ المؤسسات الأمنية والعسكرية بصيانة السلم الأهلي. الجيش مهمّ بالنسبة إلينا متى كان الحديث شديد الصلة بمباريات بين منتخبَي كرة سلة أو بين فريقَي كرة قدم.

حين تتقارع تنظيمات الإسلام السياسي (حزب الله وداعش والنصرة) على الحدود، يتبارى هؤلاء الأفرقاء بإظهار انتصاراتهم على بعضهم، فيما لبنانيون كثر لا يعبأون بما آل إليه حالهم جراء مغامرات الحزب وتقريره نيابة عن أهل البلد انه سيكون «حيث يجب أن نكون»، والنتيجة: تفجيرعبوة، وتأجيج النزاع على الحدود مع الفلسطين المحتلة. وعلى أمثلةٍ لا تُحصى، فإنّ التأريخ لهذا البلد مستحيل ومستحيل.

فمن الذاكرات الأيلولية والتشرينية والنيسانية والآذارية وغيرها الكثير التي يبلغ تعدادها تعداد أشهُر العام، هناك جماعة ما تروي سيرتها الأولى والنهائية التي تتناقض جذرياً مع مثيلتها في الوطن.

بعض مثقفي لبنان وكتّابه يتجنّب الحديث عن بلده المقطّع الأوصال وجيشه المنهك، ويغوص في مربع البحث عن مقاهٍ لتجزية الوقت والتنظير لمستقبلٍ حاضره قاتم كـ«رايات داعش».