سألت عجوزٌ في القليعات الكسروانيّة حفيدَها: «لماذا كلُّ إطلاق النار هذا؟ ولماذا يجول الناسُ بالسيّارات ويُطلقون أبواقها؟ ولماذا يرقص الناسُ في الطرقات ويوزّعون الحلوى على المارّة؟».
– لقد انتُخب الشيخ بشير الجميّل رئيساً للجمهوريّة.
– إبن مَن يكون هذا؟
– إنه ابنُ الشيخ بيار الجميّل.
– مِن أين هو؟
– مِن بكفيا.
– «مِن هاك القاطع وهلقد مبسوطين!»
كبُر الحفيد وعملنا معاً في الإعلام وكنّا نتمتّع بتكرار هذه السالفة، لنبكي ضاحكين ساخرين من شوفينيّتنا القاتلة، الى أن كتب أمين معلوف «الهويّات القاتلة» عام 1998.
وعندما دخل المعلوف الأكاديميّة الفرنسية في 21-6-2012 متوشّحاً الرداءَ الأخضر ورابطاً الى وسطه السيف وقد زيّنهما برموز لبنان وفرنسا، ملأ الفخرُ قلوبنا، مع نزعة إلى محو الرموز الفرنسيّة والإكثار من اللبنانيّة إمعاناً في شوفينيّتنا، وتنكّراً للهويّة الأخرى التي اختارها الرجلُ بملء إرادته.
فهويّتنا التي لم نخترْها يوماً، نفخر بها، ويا لعار مَن ينكر أباه أو أمّه اللّذين لم يخترهما.
وقبل أن نفيق من شوفينيّتنا اعتلى المعلوف منبرَ الكلام ليكشفَ عن طموحه إلى هدمِ جدارٍ قائم «في المتوسط بين الفضاءات الثقافية التي أنتمي اليها».
صفّقنا له متناسين شوفينيّتنا لأنّ الفكر جاء من رجل يحمل سيفاً مرصّعاً بأرزتنا، لا ممّن رفعَ علماً مزيّناً بكل زينة الأرض والسماء.
فنحن، ككثر آخرين، نرفض كل ما يأتينا من الغريب، إلّا السيّئ طبعاً. فنحن لا نُرَوَّض. ولست هنا بمتفاخرٍ، بل ساخر من رفضِنا القيَم والمبادئ التي يمكن أن تشفينا من تخلّفنا الّذي يدفعنا الى الاقتتال باسم الدين وباسم الطائفة وباسم الحزب وباسم الجناح في الحزب نفسه وباسم القرية وباسم العائلة وباسم الفخذ والجب في العائلة نفسها، ولن أزيد.
لكنني لن أيأس. أفلم يشبّه المعلوف أمثالنا بالفهد؟ «لماذا الفهد؟ لأنه يَقتل إذا طاردناه ويَقتل إذا تركناه طليقاً، والأسوأ أن نتركَه في الطبيعة بعد أن نكون قد جرحناه. ولكنني اخترت الفهد لأننا نستطيع أن نروّضه أيضاً».
لكنّ أكثر ما آلمني خاتمةُ بحثه في «الهويات القاتلة»، عندما تمنّى أن يُمسك صدفةً حفيدُه الكتاب حين يصبح رجلاً، فيقلّبه قليلاً، ثم يعيده إلى مكانه، «مستغرِباً أنه في زمن جده كانت هناك حاجة بعد لقول مثل هذه الأشياء».
فهل من عودة من الخلف لنتقدّم؟