مع أن شهر أيار هو الشهر الذي يلتقي خلاله اللبنانيون على تكريم السيدة العذراء، إلا أن علاقة زحلة بـ”سيدتها” إستثنائية وتمتد على طول أشهر السنة.
فوق كنيسة مساحتها 450 متراً مربّعاً وترتفع 12 متراً، يستريح تمثال سيدة زحلة والبقاع البرونزي على برج هو الأعلى في لبنان، وقد شيّد منذ سنة 1968 بطول 54 متراً، ليشكّل علامة فارقة في مدينة زحلة، ترشد القادم للبقاع الى زحلة أينما وجد في أرجاء السهل. حتى باتت محجّاً للمؤمنين من مختلف الطوائف والمناطق، قبل أن تدرج وزارة السياحة المقام وكنيسته على لائحة المواقع السياحية الدينية في لبنان منذ سنة 2018.
بدأ بناء”مقام سيدة زحلة والبقاع” أو كما يسمّيه الزحليون “تمثال العذراء” فكرة وردت للأب يوسف الجميل اليسوعي، الذي تساءل “لماذا لا تعبّر المدينة عن هويتها المسيحية، فتقيم تمثالاً للسيدة العذراء على إحدى تلالها”. لتترسّخ الفكرة كمشهدية ثابتة في مدينة زحلة بعد عشر سنوات على إطلاق الفكرة.
إكتمل البناء سنة 1968 على عهد المطران أفتيموس يواكيم، الذي أشرف بنفسه على تصميم تمثال “العذراء” في إيطاليا، وقد عهد تنفيذه الى الفنان الإيطالي بياروتي، بعدما تشكّلت لجنة للتمثال، عملت بجهد لتوفير قطعة الأرض المناسبة، ولجمع التبرّعات من أجل إتمام المشروع. وكان من أبرز المصادر التي إعتمدت في تمويل البناء، تسجيل إسطوانة لترنيمتي “يا ام الله” و”يا مريم البكر” بصوت فيروز، وقد نفّذت بمبادرة من الشاعر سعيد عقل وجورج وديع سكاف.
ناقش بياروتي الفكرة في زحلة قبل توقيع العقد معه، وشارك في إجتماعات عدّة كان أبرزها بحضور الشاعر سعيد عقل، بالإضافة الى المهندسين جورج رياشي وكميل صوان. فصمّم التمثال بطول ثمانية أمتار ونصف، تظهر فيه العذراء وهي تحمل على ساعدها طفلها الإلهي، وبيمينها عنقود عنب، فيما الطفل يسوع يحمل بشماله ثلاث سنابل قمح ومن يمينه تنطلق البركة. وفي العنب والقمح ما يرمز الى القربان المقدّس والى هوية المدينة التي تميّزت بكرمتها وبإنفتاحها على السهل الغني بزراعة القمح.
يصف الأب فيليبس يواكيم المخلصي كيفية إستقبال تمثال العذراء في المدينة، في إحتفال ضاهى بأهميته الإحتفالات بخميس الجسد، وهو تقليد سنوي في مدينة زحلة يعيد إستذكار الاعجوبة التي نجتها من الطاعون. كان ذلك على عهد محافظ البقاع الأسبق نصري سلهب، صاحب الايادي البيض في العديد من المشاريع النهضوية التي شهدتها مدينة زحلة.
سيدة زحلة والبقاع
إحتفل بوضع حجر الاساس لقاعدة برج التمثال في سنة 1966 ورفع التمثال فوقه في سنة 1968 بـ 25 آب تحديداً، ليجري تدشينه رسمياً في 8 أيلول 1968، فصار تاريخاً سنوياً للإحتفال بعيد مقام سيدة زحلة والبقاع. لم يبلغ الزحليون بهذا الموعد نظراً لخطورة العمل الذي تطلّب التخلّي عن فكرة رفع التمثال بطائرة هيلوكوبتر، وإستبدالها بسقالة جهّزت بكميات حجارة توازي وزن التمثال لتأمين رفعه الى مكانه.
صمد مقام سيدة زحلة والبقاع حتى في أحلك الظروف التي مرّت على زحلة. فشوهت آلة الحرب جسم “تمثال العذراء” البرونزي وألحقت أضراراً بالبرج الذي حملها وبالمنشآت التابعة لها، وخصوصاً بعدما تمركزت القوات السورية في المقام وبناء ملاصق له بعد حرب الـ 1981. إلا أنّ علاقة زحلة بسيدتهم لم تنقطع، وبقيت عيونهم شاخصة على تلتها، يتضرّعون اليها لتحميهم من كل سوء.
سنة 1983 إثر تسلم المطران أندره حداد مهامه الاسقفية توصل الى إخلاء المقام من الوجود السوري العسكري مجدّداً، وإستعاده المؤمنون محجّاً دائماً، ليشهدوا من بعدها على النهضة الكبيرة التي شهدها المكان، وخصوصاً مع تلبيس البرج بالرخام الأبيض من نوع الكرارا، والذي إعتمدت طريقة تركيبه بواسطة خوابير فولاذية لتكون كل بلاطة محمولة ذاتياً على هياكل من الكروم وبفواصل من الستنلس. وذلك بالتزامن مع ورشة لمعالجة الصدأ والإهتراء اللذين لحقا بالتمثال. ليكتمل ظهور المقام وقاعدته بحلة جديدة في ايار سنة 2005، بعدما جهّز أيضاً بنظام إنارة جعله منارة تشع على زحلة وكل أنحاء البقاع.
في الموقع نفسه بُنيت بازيليك المقام بعمق تسعة امتار تحت المقام. هذه البازيليك التي إختزلت فيها القداديس الإحتفالية منذ جائحة “كورونا”، في وقت حافظ المقام على ابوابه مفتوحة أمام المصلين، وخصوصاً في هذا الشهر حيث ترتفع عيون الزحليين الى تمثال السيدة الساهرة على مدينتهم، مع إطلاق الترانيم التي تكرّمها كلما التقت عقارب الساعة عند الثانية عشرة ظهراً.