Site icon IMLebanon

»جرايدنا للبيع.. للسفارات يا بلدنا» في وداع «جريدة السفير»

 

بين جيلي، ومن صفّ واحد، خرج عدد كبير كانت الصحافة والإعلام حُلمه، وجُلّ ما أذكره أنّني ومنذ الصف المتوسّط الثالث كنتُ قد اتخذتُ قراري بأن أكون «صحافيّة»، وأنّ علاقتي بالصحف بدأت في مطلع الحرب الأهليّة اللبنانيّة كنتُ في العاشرة، كان صوت بائع الصحف جزءاً من الصباح بعد ليل قصف عنيف، كان أبي يختار المُحرّر، بعدها بأشهر قليلة حلّ في النداء الشهير اسم جريدة السفير «محرّر نهار سفير بيروت النداء الكفاح العربي.. جرايد»، صار أبي يختار السفير، ولستُ أدري لمَ كان يُصر أن يقرأ على مسامعنا التحليل السياسي والصراع على تدويل الأزمة اللبنانية، أظنّ أن علاقتي بالصحافة ـ ورغبتي الشديدة في امتهانها ـ بدأت من هنا، وتحديداً منذ قرأت لقاءً أجراه الزميل عبيدو باشا مع الفنانة نضال الأشقر على جزئين في السفير الثقافي روتْ فيه تاريخ تجربة «محترف بيروت»…

 ولكن لم أفهم مرّة لمَ يحلّ «الأخ العقيد معمّر القذافي» في مانشيتات السفير، ولِمَ لمَ تتصدّر صور عبد السلام جلّود صفحاتها، ولأنّ الصدق أجدى في مخاطبة القارئ، كان آخر عهد طفولتنا بالراحل الكبير شوشو مسرحيّة آخ يا بلدنا، كان يوم جنازته متوتراً فصوت الرصاص يخترق الأفق، وكانت الإذاعة اللبنانيّة تكرّر إذاعة أغنيته «شحادين يا بلدنا» من آخر مسرحياته آخ يا بلدنا [إخراج روجيه عساف عن مسرحية برتولت بريشت «أوبرا الثلاثة قروش» عام 1928 التي حققت له نجاحاً عالمياً، وهي تصوّر مبدأ «في البداية الطعام، ثم الأخلاق»، والمسرحية مأخوذة عن أوبرا الشحاذ The Beggar›s عام 1728 لجون غاي] ولم أفهم يوماً تكرار الأغنية ـ التي ما زالت تنطبق حرفيّاً على واقعنا اللبناني ـ «أراضينا للبيع/ للأغراب يا بلدنا/ جرايدنا للبيع/ للسفارات يا بلدنا/ ضمايرنا للبيع للجواسيس يا بلدنا/ على أونا على دوّي مين بدو يشتري مين/ نحن يا أهل المروّة/ زبون العوافي ناطرين/ وزرا ونواب للبيع/ مدرا وحجّاب للبيع/ شعرا وكتاب للبيع/ كلو كلو للبيع» [كلمات ميشال طعمة وألحان الياس الرحباني]…

ليس مفجعاً الحديث عن أزمة الصحافة الورقيّة، وبصرف النظر عن نبوءة روبرت مردوخ عام 2005 الذي توقع أن تختفي الصحافة الورقية عام 2020، وقال في كلمته التي ألقاها امام جمعية المحررين الصحافيين الاميركيين: «أعتقد بأن كثيراً منا كرؤساء تحرير للصحف وصحافيين، قد فقد حاسة الاتصال بالقارىء. فلا عجب والحال هذه ان نجد الناس، والشباب منهم على وجه الخصوص، يبحثون عن صحفهم التي يجدون فيها ضالتهم. حتى صار اليوم شباب العشرينات والثلاثينات من العمر يرفضون الاعتماد على شخص مترفع يحاول تلقينهم الاخبار المقدمة لهم وكأنها كتب مقدسة. ومع ذلك فإن كثيراً منا في هذه المهنة يبدي لا مسؤولية ازاء هذا الامر وكأنه راض عنه»!

الصحافة اللبنانية اليوم عبارة عن «خدعة كبرى»، وحريّتها «خدعة أكبر»، وقد فقدت القارىء بيدها، في الثمانينات والتسعينات تنتج لنا كتاباً كباراً وشعراء كبار، كانت تتلقّف هذه القصائد والنصوص وتفرد لها مساحات لنشرها، والصحف أقفلت بيدها باباً من أبواب التواصل بينها وبين القرّاء، ثمة الكثير مما استغنت عنه الصحف واستعاضت عنه بتقنيّة الـ «paste ـ copy»، وزد على ذلك تعاطيها مع التكنولوجيا بمفهوم «عبيط» فنظرة على معظم المواقع الألكترونية تجدها تفرد مساحات واسعة للأخبار ولمقالات الصحافيين، فيما تنتظر الصحف لم يعد باستطاعتها أن تواكب «الثانية» التي تحكم الوقت والزمن، ما زالت تعيش بنمطها الليلي النعسان المتثاءب لتنشر أخباراً بائتة، سمعت وشوهدت في كل وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي، نعم صحفنا كسولة تريد أن تظلّ «كائن ليلي» فيما «الدنيي عم تركض برّا»!!

في وداع السفير، لا بُدّ لنا من نقل حقيقة وثّقها أسامة فوزي [الوحيد الذي كتب في الثمانينات عن مجزرة (حلبجة) التي لا تجد لها ذكرا آنذاك في أي صحيفة أو مجلة عربية]، «إذا تصفحت أسماء الصحافيين العرب الذين قبضوا من صدام ستجد انهم بالمئات، وتكاد لا تجد مجلة او صحيفة عربية واحدة آنذاك لم يقبض صاحبها من مخابرات صدام حسين فمجلة «فنون عربية» التي اصدرها الشاعر العراقي بلند الحيدري في لندن صدرت بأموال المخابرات العراقية قبل ان يتوقف الدعم عنها فيتحول الحيدري الى (معارض) تستكتبه مجلة المجلة السعودية…. والعجيب انه مات مناضلا!! في نفس هذه الفترة التي نشطت فيها المخابرات العراقية في اوروبا كانت عناصرها تعمل على تأسيس امبراطوريات اعلامية لها في دول عربية لعل أهمها الأردن ولبنان والكويت…

في لبنان تم تكليف الصحافي اللبناني «طلال سلمان» بإصدار جريدة يومية تكون الناطق الاعلامي باسم العراق في بحر متلاطم من الصحف البيروتية المملوكة لعدة أجهزة مخابرات عربية ودولية، كان طلال سلمان يعمل في مجلة «الصياد» التي أرادت ان تحصل على جزء من الكعكة العراقية التي رأت أنها توزّع على خصومها ومنافسيها في الحوادث والمحرر والأسبوع العربي فلم تجد أفضل من الصحافي اليساري الثورجي طلال سلمان لتبعث به إلى بغداد فيفوز بلقاء صحافي مثير مع صدام حسين يعود على أثره من بغداد بمشروع عراقي لإصدار صحيفة يومية في بيروت، ووفقاً لما يقوله الصحافيون اللبنانيون فإنّ أعضاء حزب البعث العراقي في لبنان اقنعوا صدام حسين بتحويل المنحة الى «رياض طه» [نقيب الصحافة المغتال] لأنه أقرب إليهم كما أنّه أكثر شهرة ونفوذاً وكان يومها نقيباً للصحافيين اللبنانيين وهكذا كان…. حيث قام رياض طه بإصدار جريدته «الكفاح» بأموال عراقية واغتيل لاحقاً على أيدي المخابرات السورية…

وكترضية لطلال سلمان سلّمه رياض طه رئاسة التحرير لكن سلمان لم تعجبه اللعبة فطار إلى طرابلس الغرب وهو يحمل مشروع جريدة يومية ليبيّة الهوى هذه المرة، ونجح في إقناع معمر القذافي بالمشروع خصوصاً وأن لقاء طلال سلمان بصدام حسين أثار في حينه غيرة معمر القذافي الذي أغدق الملايين على الصحافة والصحافيين لعلّهم يصنعوا منه «جمال عبد الناصر» بطبعة ليبيّة منقحة.

وهكذا، عاد طلال سلمان الى بيروت بميزانية كبيرة أصدر بها جريدة «السفير» التي مثّلت موقف العقيد [الذي صار لاحقاً ملك ملوك أفريقيا قبل أن يسقط مقتولاً بعدما قتل الآلاف من شعبه] وجماهيريته العظمى أكثر مما تمثلها جرائد ومجلات العقيد الصادرة في طرابلس!!

قناعتي الشخصيّة أنّ هذا النوع من الصحافة لا بُدّ يأتي يوم ويستغني عنه «وليّ النعم»، مثلما حدث مع السفير عندما أقفل حزب الله «الحنفيّة» بفعل الإفلاس والتضييق عليه وعلى إيران، انتفت الحاجة إلى صحيفة كالسفير فحانت النهاية، والمقبل على المنطقة سيسقط كثيرين في الصحافة والإعلام، وإذا كنا نعيش عصر انحطاط على جميع المستويات فليس بمستغرب أن يقفل البعض أبوابه، رامياً خلفه في الشارع مئات الصحافيين والعاملين الذين صدّقوا يوماً أنّ الصحافة مهنة عظيمة…

نعم؛ كانت الصحافة رسالة ومهنة عظيمة عام 1858، يوم أصدر خليل الخوري جريدة «حديقة الأخبار» في بيروت ليكون خليل الخوري، بحق، أول صحافي عربي، أصدر جريدة شعبية، باسمه، في العالم العربي، وكلّي ثقة أننا سنعود إلى ذاك الزمن ، يوم كان الصحافة مرتبطة بحبلٍ سرّي اسمه الأدب وقضايا المواطن والمنطقة العربيّة.