لم يخطر في بالي قبل ربيع 2012 أن من الممكن أن ينتصر بشار الأسد في معادلة الصراع السياسي في سورية، بل اعتبرت ذلك أقرب إلى المستحيل. لم أكن مخطئاً في ذاك الحين، أي في الأشهر الأولى للتظاهرات الاحتجاجية التي عمّت البلاد، حيث خرج عدد كافٍ من السوريين لنستبشر بخروجه انطلاق ثورة تنقلنا من الاستبداد والجهالة إلى الديموقراطية والحرية والحداثة.
في ذاك الربيع تجرأت للمرة الأولى على نفسي وقلت، خلال مداخلة في كوبنهاغن، إن من الممكن أن ينتصر الأسد إذا ما تم اعتماد تسليح الانتفاضة وإذا ما استمر العمل على تدويل القضية السورية. واحتجت في حينه إلى الكثير من الحجج كي أؤكد رؤيتي هذه، لكنني لم أنجح في إقناع المستمعين الذين كان بينهم عدد من السوريين المتبوئين، حينها والآن، منصات في طليعة الحراك السوري.
والأهم من هذا أنني لم أنجح، ولو جزئياً، بالحد من اعتماد التسلح الذي روجت له شخصيات سورية وغير سورية (بينها مثقفون وصحافيون لبنانيون) جاهلة بالمطلق بالواقع المجتمعي السوري على أنه أكثر ثورية من الحراك السلمي. كذلك فشلتُ بالمطلق في الحيلولة دون إعطاء مفاتيح بوابات سيادتنا لمن هبّ ودبّ من الدول.
لكن بعد ذلك بوقت قصير تعدى موضوع انتصار النظام حالته الافتراضية ليصبح احتمالاً ممكناً، ذلك بعد أن نجح النظام، مستفيداً من غباء (أو شطارة) المال السياسي العَميم الذي انهال على أوساط المحتجين، ومن الجهل السياسي عند أغلب الناشطين، باستنبات نماذج عدة من المجموعات المتطرفة والتكفيرية القابلة لتبني عقيدة إرهابية ولاستضافة إرهاب خارجي فُتحت له جميع الأبواب ليدخل سورية مختالاً.
كان هدف النظام من كل ذلك إقناع الدول الغربية بأن يعتمدوه هو لمواجهة الإرهاب المتنامي الذي رباه «كل شبر بندْر»، وسهر على رعايته من «عين الحسود»، ليظهره جلياً لماعاً لا يخفى على أحد سوى «المعارضة» التي اعتمدت معادلة «عدو عدوي صديقي» حتى لو كان تنظيم القاعدة نفسه.
عرف النظام مبكراً أن انتصاره سيكون تحديداً اعتماده دولياً لمواجهة الإرهاب، وأن قمعه وقتله لمواطنيه أمور ليست ذات شأن بالحسابات الدولية، خلافاً للمعارضة التي ظنت أنه يمكنها تحقيق الانتصار حتى لو تبنت جماعات متشددة أو متطرفة، بل ظنت، وما زالت تظن حتى اللحظة، أن الدول الغربية ستخلع النظام أو تسمح بخلعه بسبب الارتكابات التي قام بها.
بقي النظام مثابراً على نهجه وخطابه طيلة السنوات الأربع ونصف السنة الماضية إلى أن قام «داعش» بهجمات باريس التي أوجعت الغرب برمّته، وأجبرته على تبديل استراتيجيته، من الاكتفاء بمواجهة «داعش» إلى ضرورة القضاء عليه. فلم تتردد الدول الغربية بناء على ذلك من الأخذ بالنصيحة الروسية الدائمة باعتماد الجيش العربي السوري.
فهذا الجيش، وفق الروس، هو الأقوى على الأراضي السورية، بخاصة بعد أن تم دعمه مؤخراً بسلاح الجو الروسي. وهو الأكثر صدقاً وجدية بمحاربة «داعش» و»النصرة» ومن يشبههما، إضافة إلى أنه لا يحتاج الى تدريب أو تأهيل، فكل ما يحتاجه إيكال مهمة مواجهة الإرهاب له في شكل رسمي كجيش حليف. وهذا الأمر لا ترى فيه الدول الغربية أي مشكلة، بل إنها لا ترى في تماهي بشار الأسد مع الجيش السوري، أو عكس ذلك، وما ينجم عنه من أن أي اعتماد للجيش هو اعتماد للرئيس الأسد، ما يشكل عائقاً أمام التوافق الدولي المتمثل بقرار مجلس الأمن 2254 الذي تم إقراره بالإجماع، وبموافقة جميع دول فيينا، والذي لم يُشر إطلاقاً إلى بشار الأسد أو منصب رئيس الجمهورية. الأمر الذي لم يدرك بعض المعارضين أنه ليس خطأ طباعياً أو سهوة غافل، بل هو تخطٍ صريح لموقف قديم اعتمد على أن تنحية الأسد شرط لأي عملية سياسية وليس نتيجة لها، كما كنا نقول منذ وقت طويل (جرى سجال موثق بيني وبين السفير الفرنسي حول هذه النقطة بحضور جميع السفراء الأوروبيين الذين كانوا موجودين جميعهم في دمشق في الشهر الأول من 2012، وبحضور ممثلين عن السفارتين الأميركية والتركية)، وأن المعادلة تحولت برمتها لتصبح تأجيل الحديث عن الأسد إلى أجل غير مسمى.
لكن ليس بقاء بشار الأسد خلال العملية التفاوضية من دون البت بمصيره هو الخطر الأكبر، بل قبول نظامه كله «بعجره وبجره»، أي بصيغته الديكتاتورية القمعية، مكافأة له على قبوله إشراك قواته العسكرية في الحرب على «داعش» و «النصرة». فهذا هو الخطر الكبير، إذ في هذه الحالة سيتحول النظام السوري بكل تأكيد من نظام استبدادي قمعي مُبيد إلى نظام فاشي لم تشهد البشرية مثيلاً له.
إن شئنا الحيلولة دون انتصار النظام والدخول في حقبة فاشية، لا أحد يعرف متى وكيف يمكن أن تنتهي وإلى ماذا ستنتهي، فإنه يتوجب علينا العمل بإقدام وجرأة وحنكة بالغة على استغلال المسار الدولي الحالي باعتباره فرصة لن تتكرر، مدركين أن مسألة طبيعة النظام السوري، أكان استبدادياً أم ديموقراطياً، أمر لا يهم الدول الأخرى ولا يعنيها بشيء. فالسوريون بالمطلق هم وحدهم من يعنيه هذا الموضوع، والسوريون الغيورون على وطنهم ومواطنيهم هم وحدهم الذين يتوجب عليهم القيام بذلك والقبول بالقرار الدولي لمجلس الأمن والعمل على سورنته، أي جعله سورياً يخدم مصالح السوريين جميعهم، والسعي للتقدم على المجتمع الدولي خطوة واحدة، بل نصف خطوة، بل حتى قدماً واحدة. فهذه المسافة ستكون أمراً كافياً الآن كخطوة أولى للحيلولة دون انتصار النظام.
علينا إذاً تحويل فرصتنا الحالية إلى لحظة ثورية حرّوية (مصطلح للسوري جورج طرابيشي)، وعدم إضاعتها كما أضعنا لحظتنا الثورية في 2011 حين سمحنا بوجود دعاة استخدام السلاح فامتشقه أي عابر طريق، وحين سمحنا لدعاة التدويل بالقول إن الدول ستساعدنا في محنتنا وفاء لقيم الحداثة. علينا ألا نقبل بسيادة هؤلاء على مسار بناء مرحلة انتقالية لدولة ديموقراطية عادلة. لقد آن لنا أوان القول إن خمس سنين كانت كافية لمحو أميّتنا السياسية، وأنه بات يمكننا استثمار الصمت الذي سينجم عن كتمان أصوات المدافع حين إعلان وقف النار، لنملأه أصواتاً بشرية سورية عاقلة قبل أن يخرّبه نقيق الضفادع وسكسكة القوارض، إذ بتنا نعرف بوضوح أن الكثير من الأصوات العالية أصوات لكائنات ليس لها أي دور أو فعل سوى تخريب المسامع.