إنها لحظة مواجهة مع الذات بعد ان اشتاقت ارواحنا الى الشمس والهواء والنقاء، وأن نقول ما كان يجب ان يقال، بصدق ووضوح وبعيدا عن الغضب والندم والعتاب، انها لحظة حنين الى شجاعة الانجاز والنجاح والاكتشاف، انها صرخة حياة ورجاء من اجل تجديد الحياة في التجربة الوطنية الآيلة الى التلاشي والفناء، ومن اجل عودة الروح الى لبنان الفرادة والتألّق والفنون والإعلام والثقافة والسياسة واحزاب اليمين واليسار والأحلاف والتكتلات والمظاهرات والجامعات والاتحادات، ونقابات عمال وتخصصات وانتخابات ورؤساء ووزراء ونواب.
أيام كنّا نريد بناء دولة وطنية حديثة تليق بالإنسان، وتحمي حقّنا في الاختيار والتعبير عن الذات. يوم حملنا الى المدينة أجمل ما في أريافنا من حب وصدق وطموحات. وكانت الارياف تقدم نخبة ابنائها للوطن عربون ثقة ووفاء، وكنا نعتقد أنّ من يزرع الشوك يجني الجراح. سنوات جميلة عرفنا فيها أسماء وأسماء، ومبدعون ومبدعات، ومسارح ومهرجانات، ومعارض ومطابع ومدارس ومعاهد وجامعات ومستشفيات وصحف ومجلات وأشعار وشعراء وأغاني ومعزوفات وكتّاب وكاتبات ورائدات وروّاد.. كانت بيروت المدينة كبيرة جدا ومفعمة بالحياة وكثيرة الأبواب والأضواء والعمران والطرقات، وقلوبها مفتوحة للوافدين الطامحين بكلّ حبّ وحنان.. كان الانسياب سلساً بين المناطق والمدن والطبقات، وكان هناك وطن جميل اسمه لبنان.
عاشت الروح الوطنية اللبنانية سنوات من الالم والضياع مع موجات التداخل والتناقض بين تعدد الهويات والجماعات واللغات والأيديولوجيات والقوميات والنكبات والنكسات والثورات والنزاعات والطوائف والمذاهب والغرباء والحروب والدمار واعادة الاعمار والعزل والتغول والاحتلال والوصاية والاغتيالات والانتفاضات والتعطيل والاستقواء.. وشهدنا في بيروت الحبيبة قتل من أحببنا، حبيباً حبيباً، واحترقت أماكننا، مكاناً مكاناً، واقتلعنا من أنفسنا وأقفلت في وجوهنا كل اسباب الحياة. وساد ما ساد وهو أبشع من ان نذكره وأبشع من ان ننساه، سقطت مبادئنا وقيمنا الواحدة تلو الأخرى، وقتل العنف فينا الشعور بالثقة والسكينة والأمان.
سرقوا منا أعمارنا وأحلامنا والأسواق والبيوت والسيارات، وبحثنا عن رفيق نأنس به ولا نخشاه. جعلوا من أخلاقنا عاهة دائمة، نخجل بها ونداريها عن اعين الناس. تقاسموا المغانم والمناصب وكتبوا عن أنفسهم ما ليس فيهم، وخدعونا بتوبتهم مرات ومرات وبأنّهم يريدون العيش بسلام، وخسرنا نقاءنا بسكوتنا عن فظائعهم. إنّهم لا يشاهدون إلاّ صورهم في المرآة ولا يسمعون الا اصواتهم. عرفنا معهم كلّ الغرف السوداء ومكاتب المخابرات والسفارات، وعرفنا منهم ان الصدق من صفات الجبناء، والكذب للأبطال والشجعان، كذبنا كما يكذبون، وفقدنا الإدراك والتمييز بين الخطأ والصواب وشاهدنا الظلم بحق الضعفاء وعللناه، وتجرأنا على آداب الحوار والنقاش.
سنوات وسنوات بحلوها ومرّها مع روح وطنيّة مضطربة ومنقسمة على ذاتها تتنازعها الاتجاهات، بين السير بالدولة والمجتمع نحو التقدم والحرية والسيادة والاستقلال والازدهار، او إعادة عقارب الزمن الى الوراء، او البقاء حيث كنّا ولا نزال، بين الدولة واللادولة، والوطن واللاوطن، والوحدة واللاوحدة، او بين المجتمعات والقطعان حيث تتعاقب علينا باستمرار مواسم العنف والاغتيال والتأديب والسفاهة والردع والانصياع، وتشتيت إرادة النهوض والاستقرار بعيدا عن الاستتباع والاستبداد، وضياع المواطن الإنسان، آه ثم آه من الأعماق، كم اشتاقت ارواحنا الى الشمس والهواء والنقاء والحريّة في لبنان.