صحيح أن لديموقراطيتنا التوافقية شكلها الغريب والعجيب، وآلياتها التي لا تشبه ديموقراطيات العالم، لكننا في الوقت عينه نملك نظاما محددا قد يكون المثال والنموذج المعتمد لاحقا في كثير من الدول المتعددة الطائفة والمذهب، خصوصا في هذا الشرق الذي عرف قيمة التنوع في زمن مضى، وإذ به ينحدر بسرعة نحو هاوية سحقت كل أفكار العروبة والقومية والتعدد الاتني والمذهبي، فطغت مذهبية بغيضة، قاتلة، مجرمة.
وقد أدى الصراع بين المذاهب الإسلامية الذي استيقظ بعد سبات عميق ليوقظ معه أحقاداً لم تستطع مئات السنين محوها، إلى تنامي الخوف لدى كثيرين، ومنهم المتصارعون انفسهم. فالسنة في سوريا والعراق متخوفون من السيطرة الشيعية، والشيعة في السعودية والبحرين قلقون لمصيرهم، وغيرهم في كل دول الخليج متخوفون من ترحيل جماعي. واذا كانت الحال هذه بين قوتين كبيرتين، فماذا عن المجموعات الأقل عدداً؟
الأكراد يناضلون من أجل إقامة دولتهم المستقلة ليكون لهم كرامة لم يجدوها إطلاقا. الايزيديون، ليس من أرقام دقيقة حول الأعداد المتبقية منهم بعد المجازر الجماعية بحقهم، ولم ينظر المجتمع الدولي إلى حقهم في العيش الحر. البهائيون يتخفون خوفاً من سحقهم وهم مجموعة صغيرة أصلاً. اليهود غادروا كل أرض عربية بعدما ضاق بهم العيش.
أما المسيحيون فحدّث ولا حرج، ففي لبنان الحرية والبلد الذي يقال إنه أُقيم من أجلهم، صاروا مهضومي الحقوق ويتقاسم السنة والشيعة مناصبهم ووظائفهم وأراضيهم المصادَرة في غير منطقة تحت حجج واهية تارة أمنية وعسكرية، وتارة باقتسام القرى وإنشاء بلدات جديدة تقضم أرضهم.
ومسيحيو مصر الذين يتجاوز عددهم العشرة ملايين، كانوا ينتظرون أن يمنّ عليهم الرئيس حسني مبارك بنائبين أو ثلاثة يسميهم للدخول إلى مجلس لا يتّسع لهم ديموقراطياً بسبب امتناع مواطنيهم عن الاقتراع لمصلحتهم.
أما مسيحيو سوريا والعراق، أو لنقل من بقي منهم في أرضه، فيعانون الأمرين من سيطرة الإرهاب بعناوين وشعارات مختلفة، وقد عادوا في القرن الحادي والعشرين اهل ذمة تفرض عليهم احكام الشريعة.
وفي الاردن تزداد النزعة العدائية تجاه المسيحيين، على رغم رعاية الأسرة الهاشمية لهم، فلا اعتراف بهم في الكتب المعتمدة، وثمة دعاة يُطلون عبر الإعلام لإثارة العدائية ضدهم.
فإذا كانت مفاهيم وعقائد وافكار العروبة والقومية الاجتماعية والبعث والشيوعية والاشتراكية وكل محاولات العلمنة والدولة المدنية سقطت في هذا الشرق، وإذا كان لبنان عاد إلى الارتباط وثيقاً ليس بملفات المنطقة فحسب، بل بتخلفها وانهيار قيمها، وفَقَدَ دوره التنويري، فكيف يريد منا البعض أن نمضي نحو إلغاء الطائفية؟