لا شك في نزوع اللبنانيين إلى مغادرة «13 نيسان – أبريل»، الذي يحضر مخفوراً كل مرة إلى ساحة بيانات «السياسة اللبنانية» واحتفالاتها. لكن ما الباقي من 13 نيسان 1975 حقاً؟ وما الذي تمّ تجاوزه واقعاً لا قولاً، وحقيقةً وليس ادعاء؟!
فالخلاف يكاد يكون الثابت الوحيد الممتنع على «الزحزحة»، آية ذلك ما تشهده الحياة السياسية اللبنانية اليوم، في منعطفها الحاد والعسير، وما تضج به «الاستقطابات» من تحليلات، حول مختلف العناوين الخلافية القديمة الجديدة! في هذا المجال، لا بأس من تفصيل دلالي يعرض لبعض المسميات السياسية. نبدأ مجدداً، من الاستقلال اللبناني، كيف فهم سابقاً وكيف يُفهم الآن، وكيف يبدو في الغالب مقطوعاً عن سياق البنية السياسية الاجتماعية التي أنتجته، وعن البيئة الدولية الإقليمية التي رعت «الإنتاج» وسهلت دوران عجلته. مفردة «الاستقواء» مرذولة نصاً من كل الفرقاء، لكنها ملاذ عملي في الكثير من الأحوال.
لبنان الساحة، مقولة لم تترك مكانها نهائياً. لبنان الناجي من حبال جيرانه، مطلب لم يفقد بريقه. الجسر الواصل بين الداخل والخارج، بأحكام تسوية لبنانية متوازنة، ما زال واهن الدعائم وحائر اللبنات. حربنا، هي التي انفجرت على أرضنا عام 1975، أم حرب الآخرين في ديارنا، «فلسفة» لم تتوصل حتى الآن إلى تقسيم عادل للمسؤوليات بين «نحن» و «هم»، تحول دون ذلك «فذلكة نقاء» تفترض أن الاختلاف من الأخلاق الدخيلة على اللبنانيين! وأن الخصومة المدمرة ليست من عاداتهم!…
ما ورد، هو من البواقي الراسخة من حدث 13 نيسان 1975، ومن سياقه السياسي الاجتماعي الذي جعل الانفجار الأهلي خياراً وحيداً، توهمه فريق من اللبنانيين ممراً للتغيير الداخلي الموعود، ولجأ إليه فريق لبناني آخر، لإدامة «نظام معاق» ممتنع عن تسوية مطلوبة وممكنة. لقد سقط في 13 نيسان استقرار النظام، وخرافة ديمومة توازناته الموروثة، كما سقط أيضاً برنامج إصلاحه وهدف تغييره… أمران يقتطف من ذكراهما «أمراء الطوائف» عناوين كان لها سياقها وقواها، وصار لها في غياب وقائعها الاجتماعية والسياسية مدلولات أخرى، تكاد تكون نقيض معانيها واستهدافاتها الغابرة. معاينة كهذه تكاد تحسم أن الذي بقي من 13 نيسان البعيد هو «النظام الطائفي» الذي يجدد إنتاج قوالبه في كل 13 نيسان لاحق. حصل ذلك مع اتفاق الطائف، وهو في طريقه إلى الحصول بعد التعليق المديد لعملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية الذي صار مقيداً بواقع الحياة السياسية.
لقد حصلت محاولة تجاوز حقيقية للوضع اللبناني عشية 13 نيسان، لكن إخفاقها أدخل الجميع في غياهب «العشية» هذه. قيل يومذاك بإلغاء الطائفية السياسية، وبقانون انتخابات جديد، وبنظام نسبية محدد، وبسن اقتراع يجدد شباب الهيئة الناخبة اللبنانية ويضيف إليها… كانت نسبية اندماج، وهي الآن نسبية تقنين الهيمنة الطائفية. كانت انتخابات تداخل، وهي الآن انتخابات فرز واستقطاب، كان إلغاء الطائفية طموحاً إلى إلغاء قيد على التطور الديموقراطي للبنان، وصار الآن طلباً إلى إضافة قيود فرعية إلى القيد الأصلي. كان المدى اللبناني هو المخاطب والمعني، فصارت الأمداء الخاصة موضع العناية القصوى من جانب أمرائها. كان السياسي في طريقه إلى أن يحتل موقعه المهم بين أقرانه، فعاد الأهلي ليسفّه كل عام، وليحط من شأن كل «عابر» للمجالات الطوائفية الحصينة!…
والحال، أين يمكن الحديث عن تجاوز حدث 13 نيسان الأصلي؟ وما هي المعاني الحقيقية التي يمكن الركون إليها، عندما يطالب اللبنانيون، بجعل ذكرى الحرب، محطة للعبرة وللاستخلاص؟… لقد سقط التجاوز السياسي الأهم، ورسخ النظام السياسي، وتبددت القوى المختلطة التي اعتقدت بحصافة وشرعية مبادئها وتطلعاتها، فكبتت وناءت بفعل شرور وسائلها العنفية، وبخطأ مجاراتها «للنظام» في قمعه العاري. أين المراجعات الفردية والجماعية لكل هذه المسالك؟ حتى الآن المحاولات نادرة وخجول، وهذا نقص خطير، والأخطر، أن ثمة ذاكرات سياسية واجتماعية لم تبلّ من مرضها، بل إنها تستحضر هواجسها المرضية في أكثر من مناسبة، للدعوة إلى صحة منطلقاتها القديمة! في المجالين: المراجعة النقدية، أو الاستذكار المرضي، مؤشر إلى أن العافية السياسية المطلوبة ما زالت غير مكتملة المقومات حتى الآن.
… هذا من الماضي، الذي ما زال يرخي بثقله الضاغط على الحاضر. لكن، على رغم كل ذلك، لا بد من ملاحظة تحمل على التفاؤل بالمستقبل، مادتها صنيعة مزاج شعبي عام، أو غالب، رافض للحرب ولو من حال النقل، أي من وضعية الاستماع إلى أخبارها. يرافق هذا المزاج حراك مدني يقرع باب الاختلاط الاجتماعي والاندماج الوطني من أكثر من جانب. المغالبة التي يخوضها «التيار المدني» اللبناني صعبة، لكنها غير مسدودة الآفاق، هذه المغالبة تفتح سؤال الأحزاب العلمانية والديموقراطية واليسارية، وتشرّع البحث عن معاني انتظام الحياة السياسية، وسبل حماياتها. في هذا المجال، يلح على الوضعية المدنية أمران: فهم التشكيلة اللبنانية بنيوياً أولاً، وتجديد التمثيل السياسي ثانياً. في الحال الأولى ينبغي توافر القدرة على الإحاطة بتاريخ الحراك الذي عاشته «البنية» بأطيافها الطائفية المختلفة، وبمغزى الحراك ومدلولاته، وبالمآل الذي قد يصير إليه. وفي الحال الثانية، لا مفر من مراجعة البنية الحزبية كلها، والوقوف على ما عفّى عليه الزمن من فكرها وبرامجها وعلاقاتها الداخلية وصلتها بمجتمعها، والنظر كذلك في أهليتها لخوض غمار التجديد الحقيقي الذي يخرج تداول السلطات والأفكار من أسر التحجر المديد.
يرتبط تجاوز 13 نيسان، بمدى التقدم في مجال الإفلات من قبضة السياسي الطائفي، والخروج من موروث السياسي الحزبي، والانفتاح على «المدني الشاب» الذي تلزمه كل الحكمة السياسية، الذاتية والموضوعية، كي يظل شاباً، فلا يشيخ قبل أوانه.