ليس من عادة “حزب الله” أن يتخلى عن أسراره أو جرحاه أو “قديسيه” المتهمين بإرتكاب جرائم كجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005.
فلماذا يتخلى لحزب اليوم عن أحد نوابه نواف الموسوي؟ وهل تخليه عنه يعني رفع الغطاء بالكامل واعتباره أنه لم يعد واحدًا منه ولا معه حتى، وأن أعلن هو عكس ذلك واعتبر أنه باق في هذه “المسيرة الالهية”؟
يُعتبر “حزب الله” منذ تأسيسه حزباً الإستقالة منه غير ممكنة والإقالة قد تتقرّر بطرق مختلفة، وإن كان “الحزب” لا يسقط الحصانة بالإجمال عمن يمكن أن يتخلى عنه، ذلك أن أمر الحفاظ على “الأمانة” يبقى هدفاً سامياً أيضاً. فبغض النظر عن التاريخ الشخصي للشخص المعني بهذه القرارات فإن تاريخ “الحزب” يبقى هو الأهم.
ليس نواف الموسوي الأول الذي يبتعد من موقعه الحزبي، وإن كان مقعداً نيابياً هذه المرة كأحد ممثلي الحزب منذ انتخابات 2009 ومع تجديد اختياره
في انتخابات 2018. الأمر الذي يعني أنه حتى لو كانت هناك ملاحظات على أدائه فإنه كان لا يزال حاجة لـ “الحزب” لكي يطل به على العالم كأحد وجوهه
المدنية غير المعممة.
لا أدوار كبيرة في “حزب الله” لغير رجال الدين وأعضاء مجلس الشورى أو القيادات العسكرية والأمنية غير المعروفة إجمالاً إلا في إطارات “الحزب”
الضيقة. السياسيون في “الحزب” قليلون ومنهم النواب والوزراء ومسؤولو المناطق وبعض الوجوه الإعلامية، ولكن في الحقيقة تبقى أدوار هؤلاء
محصورة في قضايا معينة لا تدخل في عمق ما يقوم به “الحزب”، الذي يقاتل أفراده في سوريا والعراق واليمن وينشط على مستوى دول كثيرة،
ويعتبر بالتالي أحد أقوى أذرع الجمهورية الإسلامية في إيران منذ انطلاق نشاطه في العام 1982، ذلك أن تاريخ تأسيسه ليس مهماً كثيراً لأنه ربما لا
تاريخ محدداً لذلك وإن كان البعض يعتبر أن الإعلان عن “الرسالة المفتوحة” في 16 شباط 1985 هو التاريخ الفعلي لانطلاقته.
التأسيس: رسالة مفتوحة
ذلك الإعلان كان لمناسبة الذكرى السنوية الأولى لاغتيال الشيخ راغب حرب من خلال مؤتمر صحافي في حسينية الشياح تحدث فيه الناطق الرسمي
باسم “الحزب” السيد ابراهيم أمين السيد الذي أصبح لاحقاً رئيس كتلة “الحزب” النيابية، وشكل هذا الاعلان البداية العلنية لـ “الحزب” وقد تضمنت
“الرسالة المفتوحة” أهم المبادئ التي يؤمن بها “الحزب”.
ومما جاء في هذه الرسالة: “نحن في لبنان لسنا حزباً تنظيمياً مغلقاً ولسنا اطاراً سياسياً ضيقاً، بل نحن أمة ترتبط مع المسلمين في أنحاء العالم برباط عقائدي وسياسي متين هو الاسلام”… وعلى المستوى التنظيمي تم تشكيل “شورى” تتولى قيادة العمل السياسي والتنظيمي إضافة الى عمليات المقاومة. وبدأ “الحزب” يعلن عن قيادييه ومسؤوليه علناً، بعد ان كان يعتمد الجانب السري بالكامل. ومنذ ذلك التاريخ بدأ الحديث عن الشيخ صبحي الطفيلي كأحد أبرز قادة “الحزب” قبل أن يتولى علناً الأمانة العامة في أواخر الثمانينات، وقبل أن يصبح أحد أبرز الأمثلة على الخروج من “حزب الله”.
النائب “السابق” نواف الموسوي
قضية نواف
بعد إشكال مخفر الدامور مع النائب نواف الموسوي كبرت الهوّة بينه وبين أن يكون في موقع قيادي في “حزب الله”. قد يتقبل “الحزب” بعض
التصرفات الفردية لبعض عناصره ولكنه لا يمكن أن يقبل أن تتكرر الهفوات التي تحسب عليه من قبل شخص نائب كنواف الموسوي. البعض رد أسس
المشكلة بين الموسوي وبين “الحزب” إلى العام 2014 عندما رفض الإلتزام بقرار “الحزب” عدم التصويت على إقرار قانون حماية المرأة من العنف الذي
كان يتضمن ما يتعارض مع قانون الأحوال الشخصية في المحاكم الدينية، وخصوصاً المحاكم الجعفرية ،وهي المحاكم التي كان لها دور في قضية طلاق
ابنة الموسوي من صهره السابق حسن المقداد ابن الشيخ محمد المقداد مدير مكتب الوكيل الشرعي للسيد علي الخامنئي في لبنان الشيخ محمد
يزبك. هذه القضية التي فجرت الوضع بين الموسوي وقيادة حزبه. ذلك أن “الحزب” ربما اعتبر أن النائب المذكور تجاوز كل حدوده عندما هاجم مع أقاربه
مخفر الدامور وأساء إلى صورة “الحزب” الذي يبقى بعيداً عن مثل هذه المشاكل ويبقى حريصاً على صورته. يضاف إلى ذلك أن الصهر هو ابن أحد
قياديي “الحزب” ولو لم يكن كذلك لما كان تجرأ أصلاً على تحدي الموسوي وإيصاله إلى الحد الذي جعله يفقد أعصابه ويقدم على ما فعله.
قبل هذا الحادث كان الموسوي أمام خيار صعب عندما صدر عن قيادة “الحزب” قرار بتجميد نشاطه النيابي على أثر المشادة الكلامية التي حصلت بينه
وبين النائب نديم الجميل في مجلس النواب، بعدما قال الموسوي إن الرئيس الشهيد بشير الجميل وصل إلى رئاسة الجمهورية على ظهر دبابة
إسرائيلية بينما الرئيس العماد ميشال عون وصل بفضل بندقية المقاومة. كان ذلك القرار بمثابة إهانة للموسوي ولكن كونه منخرطاً في العمل
الحزبي كان مضطراً للإنصياع له. وكان من الممكن أن يكون كل ذلك بمثابة غمامة صيف ولكن حادث الدامور أوصل الأمور إلى القرار الصعب. قدم
الموسوي استقالته من المجلس النيابي. ولو لم يكن “حزب الله” موافقاً وطالباً لهذه الإستقالة لما كان الرئيس نبيه بري تلاها في جلسة عامة لمجلس
النواب، ولما كانت النيابة العامة العسكرية قد ادعت عليه في قضية مخفر الدامور. يبقى ما إذا كانت هناك حدود في القضاء أمام عبور هذا الباب
المفتوح لاتهام الموسوي. فهل سيسمح “حزب الله” بتوقيفه مثلاً وبالحكم عليه أم أنه سيخرج بريئاً من هذه القضية ومن دون أي حكم؟ وبالتالي
سيبقى في عرف “الحزب” أحد نوابه السابقين وسيبقى هو محتفظاً بهذه الصفة من دون أن ينقلب إلى ضفة أخرى، ذلك أنه من موقعه النيابي
ومشاركته في اجتماعات ونشاطات حزبية يبقى على اطلاع ولو على بعض ما يمكن اعتبار أنه من أسرار “الحزب” التي لا يجب أن تخرج الى العلن وهذا ما
يدركه الموسوي جيداً.
الموسوي مع ابنته غدير
قضية نواف الموسوي مع حزبه تبقى تفصيلاً صغيراً أمام قضية الشيخ صبحي الطفيلي معه. كان الشيخ صبحي أميناً عاماً لـ “الحزب” وقد قاده في
المرحلة الأصعب وهو مطلع وملم بالكثير من العمليات السرية التي قام بها وبقيت سرية ولا تزال. ومع ذلك كان افتراقه عن الحزب مدوياً ولكنه في
الوقت نفسه بقي حريصاً على “أمن الحزب” لأنه كان جزءاً من ذلك الأمن خلال مراحل صعوده وقيادته. وفي الوقت نفسه بقي “الحزب”، ربما، بعيداً عن
مسألة محاكمة الشيخ الطفيلي وتوقيفه على رغم وجود مذكرات توقيف في حقه في أكثر من قضية، بعد فراره في 3 شباط 1998 من حوزة عين
بورضاي بعد الإشتباك الذي قتل فيه أحد أبرز معاونيه، في ثورة الجياع التي أعلنها، الشيخ خضر طليس الذي كان أيضا نائباً عن الحزب والتحق بالشيخ
صبحي.
الشيخ صبحي الطفيلي
مشكلة الشيخ صبحي الطفيلي لم تكن مع قيادات “الحزب” المحلية بل مع القيادة الدينية والسياسية في إيران. بعد افتراقه عن “الحزب” اعتبر أنه لم
يكن أميناً عاماً تابعاً ولذلك تم اتخاذ قرار بإزاحته في العام 1991 وانتخاب السيد عباس الموسوي خلفاً له كأول أمين عام لـ “الحزب” بعد اتفاق الطائف،
وبعد التفاهم السوري الإيراني على إنهاء القتال بين حركة أمل و”حزب الله”، ذلك القتال الذي اعتبر الشيخ صبحي أنه لم يكن له القرار فيه خصوصاً ما
حصل في إقليم التفاح، وقد طالب أكثر من مرة بمحكمة دينية تحكم في حقيقة ما حصل هناك من أعمال حربية. وقد استمرت الوساطات من دون
نتيجة بينه وبين قيادة “الحزب” وأمينه العام السيد حسن نصرالله. وكان أعلن الطفيلي في مقابلة تلفزيونية أن أحد الوسطاء كان “شبح الحزب” القائد
الأمني عماد مغنية الذي اغتيل لاحقا في دمشق في العام 2008 في 12 شباط.
قضية السيد فضل الله
قضية الشيخ صبحي الطفيلي مع “حزب الله” قد تتصل في بعض جوانبها بما كان من تباعد بين “الحزب” وبين من كان يعتبر أنه من آبائه المؤسسين
والروحيين السيد محمد حسين فضل الله. المشكلة وقعت عندما أعلن السيد مرجعيته الدينية وبالتالي خروجه عن مرجعية الولي الفقيه في إيران السيد
علي الخامنئي التي يتبع لها “حزب الله”، وقد أعلن ذلك أمينه العام السيد حسن نصرالله أكثر من مرة “لست إلا جندياً في ولاية الفقيه”. وأن “الولي
الفقيه” هو حاكم البلاد الإسلامية. على رغم علو مرتبة السيد فضل الله الدينية وعلى رغم مريديه الكثيرين وربطه بصعود “الحزب”، لم ينجُ من التجريح
ومن النقد ومن الحث على التخلي عنه والبقاء في مرجعية الولي الفقيه، فـ “الحزب” بقي ملتزماً بالعلاقة التبعية أكثر من التزامه بمرجعية السيد
فضل الله.
العلامة الراحل السيد حسين فضل الله
قضية نايف كريّم
غير ذلك، إن القضايا التي سببت إشكالات بين “حزب الله” وبين قيادات فيه لم تخرج إلى العلن إلا لماماً. من هذه القضايا مثلاً ما حصل في العام 2003 مع
نايف كريّم الذي كان مسؤولاً عن تلفزيون “المنار” وعن الإعلام المركزي في “حزب الله”. فقد نشر كريّم في جريدة “السفير” في الخامس من آذار ذلك
العام مقالاً تحت عنوان “قاطعوا صناع الأساطير” وقد قال فيه: “إننا وللأسف الشديد قد حرّفنا حادثة عاشوراء ألف ألف مرة أثناء عرضنا لها ونقل
وقائعها. حرّفناها لفظياً كما تناول التحريف تفسير الحادثة وتحليلها. أي أن الحادثة تعرضت للتحريف اللفظي كما تعرضت للتحريف المعنوي… أقول بكل
مرارة إن التحريفات التي أصابت هذه القضية على أيدينا كانت كلها باتجاه التقليل من قيمة الحادثة ومسخها وتحويلها إلى حادثة لا طعم لها ولا
معنى، والمسؤولية هنا تقع على عاتق الرواة والعلماء كما تقع على عاتق عامة الناس… إن المواد المزورة والمدسوسة كثيرة للغاية ولا يمكن حصرها
بسهولة وإذا ما أردنا جمع المآثم الكاذبة فإننا سنحتاج إلى مجلدات ضخمة…”. وقد أورد كريّم الكثير من الأمثلة مشككاً بحصولها مستنداً إلى مراجع
دينية كثيرة ولكن ذلك النص كان كافياً لرفع الغطاء عنه. وعلى رغم محاولاته التوضيح لاحقاً فقد تم تجميد عضويته في الحزب ثم قدم استقالته وغادر
لبنان ليعمل في الخليج قبل أن يعود في العام 2010 ليؤسس قناة تلفزيونية عربية قبل أن يندمج في مشروع قناة “الميادين”.
قضية غالب أبو زينب
ثمة مثل آخر أيضا. في أيلول العام 2014 أعلن القيادي في “حزب الله” غالب أبو زينب استقالته من مهامه كمنسق للملف المسيحي ولعلاقات الحزب
مع بعض المرجعيات المسيحية الدينية والسياسية خصوصاً مع بكركي والبطريركية المارونية. أبو زينب أعلن: “استقلت من مهامي بالملف المسيحي
ولم أستقل من “حزب الله” وما زلت في المسيرة الجهادية بتوجهات السيد حسن نصرالله”.
نواف الموسوي أيضاً أعلن بعد قرار تجميد نشاطه النيابي: “أعتذر من هذه المسيرة الإلهية، لما يمكن أن أكون قد سببته من ضرر. لكن عزائي، أنها
راسخة، ثابتة، عظيمة، باقية، مستمرة، ولا يقدح فيها شأني الضئيل”. وبعد استقالته من مجلس النواب أعلن أنه فضل أن يكون أباً على أن يكون نائباً.
غالب أبو زينب
استقالة أبو زينب من الملف المسيحي جاءت بعدما استمر في هذه المهمة مدة 14 عاماً، وفيما ذكر البعض أنها أتت نتيجة استيائه من تدخل قياديين
كثر في هذا الملف من دون التنسيق معه، مما دفعه الى طلب أخذ استراحة موقتة، ذكر آخرون أن صلة القربى التي تربط أبو زينب بعميل “الموساد”
محمد شوربا الذي قبض عليه في صفوف “الحزب” هي التي دفعته الى الاستقالة. وضع شوربا، مثلاً وغيره من العملاء الذين يكتشفهم “الحزب”
ويعتقلهم مختلف تماماً. فمثل هؤلاء لا يعرف مصيرهم لأن تلك العمالة جريمة لا سماح ولا تخفيف لها.
منذ انطلاقته بدا “حزب الله” كأنه حزب مغلق. الدخول إليه صعب. والخروج عليه صعب أيضاً. وهو لا يهادن ولا يلين في القضايا التي يعتبر أنها تمس
سلاحه وقضيته، ولا يسامح في كل ما يشكل اختراقاً لهذه القاعدة. ثمة حدود يضعها لمن لم يعد راغباً بمنحه حق العضوية. من مهام نواف الموسوي
النائب المستقيل التزام هذه الحدود بعد الإستقالة.
ليس من عادة «حزب الله» أن يتخلّى عن أسراه أو جرحاه أو «قدّيسيه» المتهمين بارتكاب جرائم كجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط
2005. فلماذا يتخلّى الحزب اليوم عن أحد نوابه نواف الموسوي؟ وهل تخلّيه عنه يعني رفع الغطاء بالكامل واعتباره أنه لم يعد واحداً منه ولا معه حتى،
وإن أعلن هو عكس ذلك واعتبر أنه باق في هذه «المسيرة الإلهية»؟